إدارة الدراسات الإسلامية
EN ع

مناهج المفسرين ج (2)


مناهج المفسرين

من كتاب

التفسير والمفسرون

المقرر الثاني

 
 

تأليف

الدكتور: محمد الذهبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
بتوفيق من الله تعالى نقدم للدارسين والدارسات في معاهد الدراسات الإسلامية فصول من ((كتاب التفسير والمفسرون)) وهو يعرض بكل أمانة ما في القرآن الكريم من وجوه الإعجاز.
ويبين ما تضمنه من أحكام لابد للمسلمين من معرفتها والوقوف عند حدودها ليسعدوا إذا هم نهلوا من فيض القرآن وعملوا به واهتدوا بهديه، وإذا هم أرادوا لأنفسهم عز الدنيا وسعادة الآخرة وجاءت فصول هذا الكتاب تبين مراحل التفسير رواية وتدوينا وتنصف في الوقت نفسه رجال التفسير لقاء ما قدموه من عطاء موصول وفكر مستنير كشفوا به كثرة الوضع في التفسير ومراحل دخول الإسرائيليات فيه ليكون المسلمون على بينة تكشف الشبه المثارة ضد هذا التراث العظيم إلى غير ذلك من جهود مباركة من أجل حماية القرآن وصيانته من الدس والتشكيك وسموم التأويل المنحرف ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
والله المستعان  
 

 مدير إدارة الدراسات الإسلامية


تمهيد
·ابتداء هذه المرحلة:
تبدأ المرحلة الثالثة للتفسير من مبدأ ظهور التدوين، وذلك في أواخر عهد بني أمية ، وأول عهد العباسيين.
·الخطوة الأولى للتفسير:
وكان التفسير قبل ذلك يتناقل بطريق الرواية, فالصحابة يروون عن رسول الله عليه وسلم، كما يروى بعضهم عن بعض. والتابعون يروون عن الصحابة، كما يروى بعضهم عن بعض، وهذه هي الخطوة الأولى للتفسير(1).
* * *
· الخطوة الثانية:
ثم بعد عصر الصحابة والتابعين، خطا التفسير خطوة ثانية، وذلك حيث ابتدأ التدوين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير بابا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة، وآية آية، من مبدئه إلى منتهاه، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث، فجمع بجوار ذلك ما روى في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين، ومن هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هجرية، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هجرية، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة 205 هجرية، وعبد الرزاق ابن همام المتوفى سنة 211 هجرية، وآدم بن أبي إياس المتوفى سنة 220 هجرية، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249 هجرية، وغيرهم، وهؤلاء جميعاً كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعاً لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعا للتفسير على استقلال وانفراد، وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسنداً إليهم، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شئ منها، ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها.
·الخطوة الثالثة:
ثم بعد هذه الخطوة الثانية، خطا التفسير خطوة ثالثة، انفصل بها عن الحديث، فأصبح علما قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف. وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجة المتوفى سنة 273هـ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هـ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة 328هـ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369هـ، والحاكم المتوفى سنة 405 هـ، وأبو بكر بن مردوية المتوفى سنة 410 هـ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.
وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، والتابعين، وتابع التابعين، وليس فيها شئ من التفسير أكثر من التفسير المأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها، ورجح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية ............... وسنأتي نتكلم عن هذا التفسير عند الكلام عن الكتب المؤلفة في التفسير بالمأثور إن شاء الله تعالى.
وإذا كان التفسير قد خطا هذه الخطوة الثالثة التي انفصل بها عن الحديث، فليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية، كانت الخطوة الثانية له، وهي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة، وهي تدوينه على استقلال وانفراد، فكل هذه الخطوات، تم إسلام بعضها على بعض، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالثة، يسيرون على نمط الخطوة الثانية، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو عن التابعين.
* * *
 ليس من السهل معرفة أول من دون تفسير كل القرآن مرتباً:
هذا، ولا نستطيع أن نعين بالضبط، المفسر الأول الذي فسر القرآن آية آية، ودونه على التتابع وحسب ترتيب المصحف. ونجد في الفهرست لابن النديم ص ( 99 ) أن أبا العباس ثعلب قال: ((كان السبب في إملاء كتاب الفراء في المعاني (1) أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكانت منقطعاً إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفراء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألني عن الشئ بعد الشئ من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه فعلت، فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملى عليكم كتابا في القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها، ثم نوفي الكتاب كله، فقرأ الرجل ويفسر الفراء، قال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحداً يزيد عليه )) ا هـ.
فهل نستطيع أن نستخلص من ذلك: أن الفراء المتوفى سنة 207هـ، هو أول من دون تفسيراً جامعاً لكل آيات القرآن مرتبا على وفق ترتيب المصحف؟ وهل نستطيع أن نقول : إن كل من تقدم الفراء من المفسرين كانوا يقتصرون على تفسير المشكل فقط ؟ لا ... لا نستطيع أن نفهم هذا من عبارة ابن النديم لأنها غير قاطعة في هذا، كما لا نستطيع أن نميل إليه كما مال إليه الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام جـ 2 ص 141، وذلك لأن كتاب معاني القرآن للفراء شبيه في تناوله للآيات على ترتيبها في السور بكتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، فإنه يتناول السور على ترتيبها، ويعرض لما في السورة من آية تحتاج لبيان مجازها ـ أي المراد منها ـ فليس للفراء أولية في هذا، بل تلك على ما يبدو كانت خطة العصر(2)، ثم إن ما نقل لنا عن السلف يشعر ـ وإن كان غير قاطع ـ بأن استيفاء التفسير لسور القرآن وآياته كان عملا مبكراً لم يتأخر إلى نهاية القرن الثاني وأوائل الثالث، فمثلا يقول ابن أبي مليكة: ((رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب . قال : حتى سأله عن التفسير كله ))(3).
ونجد الحافظ ابن حجر عندما ترجم لعطاء بن دينار الهذلي المصري في كتابه تهذيب التهذيب يقول: ((قال على بن الحسن الهسنجاني، عن أحمد ابن صالح: عطاء بن دينار، من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، وقال أبو حاتم: صالح الحديث إلا أن التفسير أخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86هـ سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير)) ا هـ.
فهذا صريح في أن سعيد بن جبير رضى الله عنه جمع تفسير القرآن في كتاب، وأخذه من الكتاب عطاء بن دينار، ومعروف أن سعيد بن جبير قتل سنة 94 ـ أو سنة 95 هجرية ـ على الخلاف في ذلك، ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هجرية.
كذلك نجد في وفيات الأعيان ( ج 2 ص 3 ) : أن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة، كتب تفسيراً للقرآن عن الحسن البصري. ومعلوم أن الحسن توفي سنة 116 هجرية.
ومر بنا فيما سبق (ص 80) أن ابن جريج المتوفى سنة 150 هجرية له ثلاثة أجزاء كبار في التفسير رواها عنه محمد بن ثور، فإذا انضم إلى هذا ما نلاحظه من قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشدة عناية القوم بأخذ الأحكام وغيرها من آيات القرآن، وحاجتهم الملحة في ذلك، نستطيع أن نقول إن الفراء لم يسبق إلى هذا الاستيفاء والتقصي، بل هو مسبوق بذلك، وإن كنا لا نستطيع أن نعين من سبق إلى هذا العمل على وجه التحقيق، ولو أنه وقع لنا كل ما كتب من التفسير من مبدأ عهد التدوين. لأمكننا أن نعين المفسر الأول الذي دون التفسير على هذا النمط.
* * *
· الخطوة الرابعة:
ثم إن التفسير لم يقف عند هذه الخطوة الثالثة بل خطا بعهدها خطوة رابعة، لم يتجاوز بها حدود التفسير بالمأثور، وإن كان قد تجاوز روايته بالإسناد، فصنف في التفسير خلق كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير. وسنعرض لهذا بالبيان والتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولقد وجد من بين هؤلاء المفسرين من عنى بجمع شتات الأقوال، فصار كلما سنح له قول أورده، وكلما خطر بباله شئ اعتمده، فيأتي من بعده وينقل ذلك عنه بدون أن يتحرى الصواب فيما ينقل، وبدون التفات منه إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن يرجع إليهم في التفسير، ظنا منه أن كل ما ذكر له أصل ثابت !! وليس أدل نهم هؤلاء القوم بكثرة النقل، من أن بعضهم ذكر في تفسير قوله تعالى ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين))(1)
* * *
· الخطوة الخامسة:
ثم خطا التفسير بعد ذلك خطوة خامسة، هي أوسع الخطى وأفسحها، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصوراً على رواية ما نقل عن سلف هذه الأمة، تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وكان ذلك على تدرج ملحوظ في ذلك.
* * *
· تدرج التفسير العقلي :
بدأ ذلك أولا على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقبولا ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية. ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد المتباينة، حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم.
دونت علوم اللغة، ودون النحو والصرف، وتشعبت مذاهب الخلاف الفقهي، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبي قائما على قدمه وساقه في العصر العباسي، وقامت الفرق الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها، وترجمت كتب كثيرة من كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من أبحاث بالتفسير(3) حتى طغت عليه، وغلب الجانب العقلي على الجانب النقلي، وصار أظهر شئ في هذه الكتب، هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول، أو بغير ذلك على المأثور.
وهكذا تدرج التفسير، واتجهت الكتب المؤلفة فيه اتجاهات متنوعة، وتحكمت الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية في عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافية الفلسفية والعلمية للمسلمين في تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة فيه، وكما ظهرت آثار النحل والأهواء فيه ظهوراً جليا.
وإنا لنلحظ في وضوح وجلاء: أن كل من برع في فن من فنون العلم، يكاد يقتصر تفسيره على الفن الذي برع فيه، فالنحوى تراه لا هم له إلا الإعراب وذكر ما يحتمل في ذلك من أوجه، وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافياته، وذلك كالزجاج ، والواحدي في البسيط، وأبي حيان في البحر المحيط ..
وصاحب العلوم العقلية، تراه يعني في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، كما تراه يعني بذكر شبههم والرد عليها، وذلك كالفخر الرازي في كتابه مفاتيح الغيب.
وصاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلة للفروع الفقهية، والرد على من يخالف مذهبه، وذلك كالجصاص، والقرطبي ..
وصاحب التاريخ، ليس له شغل إلا القصص، وذكر أخبار من سلف، ما صح منها وما لا يصح، وذلك كالثعلبي والخازن ..
وصاحب البدع، ليس له قصد إلا أن يؤول كلام الله وينزله على مذهبه الفاسد، وذلك كالرماني، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، والزمخشري من المعتزلة. والطبرسي، وملا محسن الكاشي من الإمامية الإثنى عشرية.
وأصحاب التصوف قصدوا إلى ناحية الترغيب والترهيب. واستخراج المعاني الإشارية من الآيات القرآنية بما يتفق مع مشاربهم، ويتناسب مع رياضاتهم ومواجيدهم، ومن هؤلاء ابن عربي، وأبو عبد الرحمن السلمي ..
وهكذا فسر كل صاحب فن أو مذهب بما يتناسب مع فنه أو يشهد لمذهبه، وقد استمرت هذه النزعة العلمية العقلية وراجت في بعض العصور رواجا عظيما، كما راجت في عصرنا الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها أن يحملوا آيات القرآن كل العلوم، ما ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا فيما يبدو وجه من وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته لأن يتمشى مع الزمن. وفي الحق أن هذا غلو منهم، وإسراف يخرج القرآن عن مقصده الذي نزل من أجله، ويحيد به عن هدفه الذي يرمي إليه.
وسوف نتكلم على ذلك بتوسع عند الكلام عن التفسير العلمي إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الطغيان العقلي العلمي، لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب، بل وجد من العلماء في عصور مختلفة، من استطاع أن يقاوم تيار هذا الطغيان، ففسر القرآن، تفسيراً نقليا بحتا، على توسع منهم في النقل، وعدم تفرقة بين ما صح وما لم يصح، كما فعل السيوطي في كتابه الدر المنثور.
* * *
· التفسير الموضوعي:
وكذلك وجد من العلماء من ضيق دائرة البحث في التفسير، فتكلم عن ناحية واحدة من نواحيه المتشعبة المتعددة، فابن القيم ـ مثلا ـ أفرد كتابا من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن سماه ((التبيان في أقسام القرآن)). وأبو عبيدة، أفرد كتابا للكلام عن مجاز القرآن، والراغب الاصفهاني، أفرد كتابا في مفردات القرآن. وأبو جعفر النحاس، أفرد كتابا في الناسخ والمنسوخ من القرآن. وأبو الحسن الواحدى، أفرد كتابا في أسباب نزول القرآن. والجصاص، أفرد كتابا في أحكام القرآن .. وغير هؤلاء كثير من العلماء الذين قصدوا إلى موضوع خاص في القرآن يجمعون ما تفرق منه، ويفردونه بالدرس والبحث.
* * *
· توسع متقدمي المفسرين قعد بمتأخريهم عن البحث المستقل:
ثم إنا نجد متقدمي المفسرين قد توسعوا في التفسير إلى حد كبير، جعل من جاء بعدهم من المفسرين لا يقلون عنتا، ولا يجدون مشقة في محاولاتهم لفهم كتاب الله، وتدوين ما دونوا من كتب في التفسير، فمنهم من أخذ كلام غيره وزاد عليه، ومنهم من اختصر، ومنهم من علق الحواشي وتتبع كلام من سبقه، تارة بالكشف عن المراد، وأخرى بالتفنيد والاعتراض، ومع ذلك فاتجاهات التفسير، وتعدد طرائقه وألوانه. لم تزل على ما كانت عليه، متشعبة متكاثرة.
أما في عصرنا الحاضر، فقد غلب اللون الأدبي الاجتماعي على التفسير، ووجدت بعض محاولات علمية، في كثير منها تكلف ظاهر وغلو كبير، أما اللون المذهبي، فقد بقى سنة إلى يومنا هذا بمقدار ما بقى من المذاهب الإسلامية، وسوف نعرض للتفسير في عصرنا الحاضر بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
هذا هو شأن التفسير في مرحلته الثالثة ـ مرحلة التدوين ـ وهذه هي خطواته التي تدرج فيها من لدن نشأته إلى عصرنا الحاضر، وتلك هي ألوانه وطرائقه وأرى أن من العسير علىّ أن أتمشى بالتفسير مع الزمن، وأن أتكلم عن طرائقه، ومميزاته، واتجاهاته، وألوانه في كل عصر من العصور التي مرت عليه، وذلك راجع إلى أننا لم نقف على كثير مما خلفته تلك العصور من آثار فيه وهي كثرة كاثرة تنوعت مقاصدها واختلفت اتجاهاتها. وإننا لندهش عند سماع ما ألف في التفسير من الكتب التي بلغت حد الكثرة، ونسبت لرجال لهم قيمتهم العلمية، ففي القرن الثاني كتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيراً للقرآن عن الحسن البصري، كما ذكره ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان(1) ويذكر صاحب كتاب تبيين كذب المفترى: أن أبا الحسن الأشعري كتب كتاباً في التفسير يسمى المختزن، لم يترك آية تعلق بها بدعى إلا أبطل تعلقه بها، وجعلها حجة لأهل الحق(2) ، كما ينسب إلى الجويني تفسير كبير يشتمل على عشرة أنواع في كل آية(3)، وينسب للقشيري أيضا تفسير كبير(4) وابن الأنباري يذكرون أنه كان بحفظ مائة وعشرين تفسير من القرآن بأسانيدها (5) وأبو هلال العسكري، له كتاب المحاسن في تفسير القرآن، خمس مجلدات ، وغير هذا كثير جدا من الكتب التي ألفت في تفسير القرآن.
وبعد ... فهل يكون في مقدوري ـ وقد اندرست معظم كتب التفسير ـ أن أتكلم عن التفسير وما ألف فيه في جميع مراحله الزمنية؟ اللهم إن هذا أمر لا أقدر عليه إلا إذا جمع بين يدي كل ما كتب في التفسير من مبدأ نشأته إلى يومنا هذا، وكان لدى من الوقت ما يتسع لدراسته كله، وأنى لي بذلك ؟
على أننا لو نظرنا إلى مناحي المفسرين واتجاهاتهم، لوجدناهم مع اختلاف عصورهم يشتركون فيها، فبينما نجد من المتقدمين من دون التفسير بالمأثور أيضاً. وبينما نجد من المتقدمين من نحا في تفسيره الناحية الإشارية نجد من المتأخرين من ينحو هذا المنحى بعينه ، وبينما نجد من المتقدمين من حاول إخضاع القرآن لمذهبه وعقيدته نجد من المتأخرين من حاول مثل هذه المحاولة(1) وهكذا نجد كثيراً من كتب التفسير على اختلاف أزمانها تتحد في مشربها، وتتجه إلى ناحية واحدة من نواحي التفسير المختلفة.
لهذا كله، أرى نفسي مضطرا إلى أن أعدل في هذه المرحلة الثالثة ـ مرحلة عصور التدوين ـ عن السير بالتفسير مع الزمن إلى التكلم عنه من ناحية هذه الاتجاهات التي اتجه إليها المفسرون في تفاسيرهم وأتبع ذلك بالكلام عن أشهر الكتب المؤلفة في التفسير، فأتكلم أولا عن التفسير المأثور وأشهر ما دون فيه، ثم عن التفسير بالرأي الجائز وغير الجائز، وعن أشهر الكتب المؤلفة في ذلك. ويندرج في هذا، الكلام على تفاسير الفرق المختلفة، ثم أتكلم بعد ذلك عن التفسير عند الصوفية وأهم كتبهم فيه، ثم عند الفلاسفة، ثم عند الفقهاء كذلك، ثم أتكلم عن التفسير العلمي، ثم أختم بكلمة عامة عن التفسير في عصرنا الحاضر، وأسأل الله العون والتوفيق.
* * *
 


 

الفصل الأول
التفسير بالمأثور
· ما هو التفسير المأثور:
يشمل التفسير المأثور ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نقل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم.
وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما روى عن التابعين ـ وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي ـ لأنا وجدنا كتب التفسير المأثور، كتفسير ابن جرير وغيره، لم تقتصر على ذكر ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روى عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير.
* * *
· تدرج التفسير المأثور:
تدرج التفسير المأثور في دوريه ـ دور الرواية ودور التدوين ـ أما في دور الرواية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدينية التي كانت لهذا العهد، والمستوى العقلي الرفيع لأهله، وتحدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على الله بأنه عنى باللفظ كذا.
ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير، فروى ما تجمع لديه من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض .. وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروى الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دور التدوين ـ وهو ما يعنينا في هذا البحث ـ فكان أول مادون من التفسير، هو التفسير المأثور، على تدرج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هو أصحاب الشأن الأول في هذا. وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون ـ على عادتهم ـ وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير ـ بمعنى جامعه لا مدونه ـ الإمام مالك ابن أنس الأصبحى، إمام دار الهجرة.(1)
وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلا منظم ، ولم يفرج بالتدوين، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين.
ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأفرد بتأليف خاص، فكان أول ما عرف لنا من ذلك، تلك الصحيفة التي رواها على بن أبي طلحة عن ابن عباس(2).
ثم وجد من ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وجدت من ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، كتفسير ابن جرير الطبري. ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته ـ وإن نقلوا تفسيرهم بالإسناد ـ توسعوا في النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقا به. كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته ـ ممن أفردوا التفسير بالتأليف ـ رجال من المحدثين بوبوا للتفسير باباً ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.
ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير المأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل، مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها، لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو كثير في التفسير.
ثم بعد هذا تغيرت موجهات الحياة، فبعد أن كان التدوين في التفسير لا يتعدى المأثور منه، تعدى إلى تدوين التفسير بالرأي على تدرج فيه، كما أشرنا إليه فيما سبق ( ص 148).
* * *


 

· اللون الشخصي للتفسير المأثور:
من المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصاً من النصوص، يلون هذا النص بتفسيره إياه، لأن المتفهم لعبارة من العبارات، هو الذي يحدد معناها ومرماها وفق مستواه الفكري، وعلى سعة أفقه العقلي، وليس في استطاعته أن يفهم من النص إلا ما يرمى إليه فكره، ويمتد إليه عقله، وبمقدار هذا يتحكم في النص ويحدد بيانه، وهذا أصل ملحوظ، نجد آثاره واضحة في كتب التفسير على اختلافها، فما من كتاب منها إلا وقد وجدنا آثار شخصية صاحبة وقد طبعت تفسيره بطابع خاص لا يعسر علينا إدراكه..
غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير، إن ظهر لنا جليا واضحاً في كتب التفسير بالرأي، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الواضح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور، ولكن نستطيع أن نتبينه إذا ما قدرنا أن المتصدي لهذا التفسير النقلي إنما يجمع حول الآية من المرويات ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلقة به، فيقصد إلى ما يتبادر لذهنه من معناها، ثم تدفعه الفكرة العامة فيها إلى أن يصل بين الآية وما يروى حولها في اطمئنان، وبهذا الاطمئنان، يتأثر نفسيا وعقليا، حينما يقبل مرويا ويعنى به، أو يرفض مرويا حين لا يرتاح إليه.
وكذلك راج بين المتقدمين ـ كما لاحظه ابن خلدون في مقدمته ـ ما هم في شوق إليه وتعلق به، من أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى في تاريخ الإنسانية الأولى، نظراً لبدواتهم وأميتهم، وقلة المتداول بينهم منه، فكان من وراء ذلك كثرة الإسرائيليات، وليس من شك في أن هذا صورة عقلية، وطابع شخصي لهذا العصر الأول(1) كما أنه صورة عقلية، وطابع شخصي لكل من يقبل هذه الإسرائيليات، ويفسر بعض آيات القرآن على ضوئها.
ثم إننا بعد هذا نلحظ لوناً شخصياً آخر في التفسير النقلي، ذلك أن الشخص الذي يعرف قيمة الرجال، ويستطيع أن ينقد السند، ويعرف أسباب الضعف في الرواية، نرى تفسيره يطبع بهذا الطابع الشخصي الخاص، فيتحرى الصحة فيما يرويه، فلا يدخل في كتابه مروياً اعتراه الضعف أو تطرق إليه الخلل. أما الشخص الذي لا دراية له بأسباب الضعف في الرواية، وليس عنده القدرة على نقد الرجال ونقد المروى عنهم فحاطب ليل، يجمع كل ما ينقل له في ذلك بدون أن يفرق بين الصحيح وغيره.
وبعد .. أفلا ترى أنه حتى في رواج التفسير النقلي وتداوله تكون شخصية المتعرض للتفسير هي الملونة له، المروجة لصنف منه؟ أظن أن نعم.
* * *
· الضعف في رواية التفسير المأثور وأسبابه:
علمنا مما تقدم أن التفسير المأثور يشمل ما كان تفسيراً للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيراً للقرآن بالسنة، وما كان تفسيراً للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروى عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن، أو بما ثبت من السنة الصحيحة، فذلك مما لا خلاف في قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف، ولا يجد الشك إليه سبيلا.
وأما ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف في سنده أو متنه فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما تفسير القرآن بما يروى عن الصحابة أو التابعين، فقد تسرب إليه الخلل، وتطرق إليه الضعف، إلى حد كاد يفقدنا الثقة بكل ما روى من ذلك، لولا أن قيض الله لهذا التراث العظيم من أزاح عنه هذه الشكوك، فسلمت لنا منه كمية لا يستهان بها، وإن كان صحيحها وسقيمها لا يزال خليطا في كثير من الكتب التي عنى أصحابها بجمع شتات الأقوال.
ولقد كانت كثرة المروى من ذلك كثرة جاوزت الحد ـ وبخاصة عن ابن عباس وعلى بن أبي طالب رضي الله عنهما ـ أكبر عامل في صرف همة العلماء ولفت أنظارهم إلى البحث والتمحيص، والنقد والتعديل والتجريح، حتى ولقد نقل عن الإمام الشافعي رضى الله عنه أنه قال: (( لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث ))(1). وهذا العدد الذي ذكره الشافعي، لا يكاد يذكر بجوار ما روى عن ابن عباس من التفسير. وهذا يدل على مبلغ ما دخل في التفسير النقلي من الروايات المكذوبة المصنوعة.
* * *


 

· أسباب الضعف:
ونستطيع أن نرجع أسباب الضعف في رواية التفسير المأثور إلى أمور ثلاثة:
       أولها: كثرة الوضع في التفسير.
       ثانيها: دخول الإسرائيليات فيه.
       ثالثها: حذف الأسانيد.
وأرى أن أعرض لكل سبب من هذه الأسباب الثلاثة المجملة بالإيضاح والتفصيل، حتى يتبين لنا مقدار ما كان لكل منها من الأثر في مقدار الثقة بكثير من الروايات المأثورة في التفسير.
* * *
أولا: الوضع في التفسير
· نشأة الوضع في التفسير:
نشأ الوضع في التفسير مع نشأته في الحديث، لأنهما كانا أول الأمر مزيجا لا يستقل أحدهما عن الآخر، فكما أننا نجد في الحديث الصحيح والحسن والضعيف، وفر رواته من هو موثوق به، ومن هو مشكوك فيه، ومن عرف بالوضع، نجد مثل ذلك فيما روى من التفسير، ومن روى من المفسرين.
وكان مبدأ ظهور الوضع في سنة إحدى وأربعين من الهجرة، حين اختلف المسلمون سياسيا، وتفرقوا إلى شيعة وخوارج وجمهور، ووجد من أهل البدع والأهواء من روجوا لبدعهم، وتعصبوا لأهوائهم، ودخل في الإسلام من تبطن الكفر والتحف الإسلام بقصد الكيد له، وتضليل أهله، فوضعوا ما وضعوا من روايات باطلة، ليصلوا بها إلى أغراضهم السيئة، ورغباتهم الخبيثة.
* * *
· أسبابه:
ويرجع الوضع في التفسير إلى أسباب متعددة: منها التعصب المذهبي، فإن ما جد من افتراق الأمة إلى شيعة تطرفوا في حب على، وخوارج انصرفوا عنه وناصبوه العداء، وجمهور المسلمين الذين وفقوا بجانب هاتين الطائفتين بدون أن يمسهم شئ من ابتداع التشيع أو الخروج، جعل كل طائفة من هذه الطوائف تحاول بكل جهودها أن تؤيد مذهبها بشئ من القرآن، فنسب الشيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى على وغيره من أهل البيت ـ رضي الله عنهم ـ أقوالا كثيرة في التفسير تشهد لمذهبهم. كما وضع الخوارج كثيرا من التفسير الذي يشهد لمذهبهم، ونسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، وكان قصد كل فريق من نسبة هذه الموضوعات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد أصحابه، الترويج للمروى، والإمعان في التدليس، فإن نسبة المروى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أو إلى أحد الصحابة، تورث المروى ثقة وقبولا، لا يوجد شئ منهما عندما ينسب المروى لغير النبي عليه الصلاة والسلام أو لغير صحابي.
كذلك نجد اللون السياسي في هذا العصر يترك له أثرا بيناً في وضع التفسير، ويلاحظ أن المروى عن على وابن عباس رضى الله عنهما في التفسير أكثر مما وضع على غيرهما، والسبب في ذلك أن عليا وابن عباس رضي الله عنهما من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وقبولا، وتقديساً ورواجا، مما لا يكون لشئ مما ينسب إلى غيرهما. وفوق هذا فقد كان لعلى من الشيعة ما ليس لغيره، فنسبوا إليه من القول في التفسير ما يظنون أنه يعلى من قدره، ويرفع من شأنه. وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، فوجد من الناس من تزلف إليهم، وتقرب بكثرة ما يرويه لهم عن جدهم ابن عباس، مما يدل على أن اللون السياسي كان له أثر ظاهر في وضع التفسير.
كذلك نجد من أسباب الوضع في التفسير ما قصده أعداء الإسلام الذين اندسوا بين أبنائه متظاهرين بالإسلام، من الكيد له ولأهله، فعمدوا إلى الدس والوضع في التفسير بعد أن عجزوا عن أن ينالوا من هذا الدين عن طريق البرهان والحجة.
* * *
· أثر الوضع في التفسير:
وكان من وراء هذه الكثرة التي دخلت في التفسير ودست عليه، أن ضاع كثير من هذا التراث العظيم الذي خلفه لنا أعلام المفسرين من السلف، لأن ما أحاط به من شكوك، أفقدنا الثقة به، وجعلنا نرد كل رواية تطرق إليها شئ من الضعف، وربما كانت صحيحة في ذاتها.
كما أن اختلاط الصحيح من هذه الروايات بالسقيم منها، جعل بعض من ينظر فيها وليس عند القدرة على التمييز بين الصحيح والعليل، ينظر إلى جميع ما روى بعين واحدة، فيحكم على الجميع بالصحة، وربما وجد من ذلك روايتين متناقضتين عن مفسر واحد فيتهمه بالتناقض في قوله، ويتهم المسلمين بقبول هذه الروايات المتناقضة المتضاربة.
يقول الأستاذ جولدزيهر في كتابه: (( المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن )) ص 87 – 82 ما نصه: ((وإنه لمما يلفت النظر في هذا المحيط، هذه الظاهرة الغريبة، وهي أن التعاليم المنسوبة إلى ابن عباس تحمل طابع التصديق بشكل متساو، وهي في نفسها تظهر في تضاد شديد بينها وبين بعضها، مما لا يقبل التوسط أو التوفيق)).
ثم يسوق بعد ذلك مثالا لهذا التضاد، فيذكر ما قام حول تعيين الذبيح من خلاف أسنده مثيروه إلى أقوال مأثورة عن السلف، ويذكر في ضمن كلامه: ((أن كل فريق يعتمد في رأيه على إسناد متصل بابن عباس يدعم به رأيه فالإسحاقيون عن عكرمة، والإسماعيليون عن الشعبي أو مجاهد، كل أولئك سمعوا ذلك عن ابن عباس، وكل ادعى بأن هذا هو رأيه في هذه المسألة..)).
ثم يقول بعد كلام ساقه في هذا الموضوع: ((ويمكن أن يرى من ذلك إلى أي حد يكون مقدار صحة الرأي المستند إلى ابن عباس، وإلى أي حد يمكن الاعتراف به. وما نعتبره بالنسبة له وللآراء المأثورة عنه، يمكن أن يعتبر إلى أقصى حد بالنسبة للتفسير المأثور، فالأقوال المتناقضة يمكن أن ترجع دائما إلى قائل واحد، معتمدة في الوقت نفسه على أسانيد مرضية موثوق بها .... )).
ثم يقول بعد كلام ساقه عن الإسناد وما وقع فيه من اللعب والخداع: (( ومن الملاحظات التي أبديناها، يمكن أن نخلص بهذه النتيجة: وهي أنه لا يوجد بالنسبة لتفسير مأثور للقرآن ما نستطيع أن نسميه وحدة تامة أو كيانا قائما، فإنه قد تروى عن الصحابة في تفسير الموضوع الواحد آراء متخالفة وفي أغلب الأحيان يناقض بعضها بعضا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تنسب للصحابي الواحد في معنى الكلمة الواحدة أو الجملة كلها آراء مختلفة، ويناء على ذلك، يعتبر التفسير الذي يخالف بعضه بعضاً، والمناقض بعضه بعضا، مساويا للتفسير بالعلم ))...
هذا ما حكم به الأستاذ جولدزيهر على التفسير بالمأثور في كتابه، وكل ما قاله في هذا الموضوع لا يعدو أن يكون محاولات فاشلة يريد من ورائها أن يظهر أن ابن عباس خاصة، ومن تكلم في التفسير من الصحابة عامة، بمظهر الشخص الذي يناقض نفسه في الكلمة الواحدة أو الموضوع الواحد. كما يرمي من وراء ذلك إلى أن يصرف نظر المسلمين عن هذه الثروة الضخمة التي خلفها لهم السلف الصالح في التفسير، زعما أن هذا التناقض الموجود بين الروايات، نتيجة لاختلاف وجهات النظر من شخص واحد أو أشخاص، وتفسير هذا شأنه نحن في حل من التزامه، لأنهم قالوا بعقولهم، ونحن مشتركون معهم في هذا القدر.
    ونحن لا ننكر أن هناك اختلافا بين السلف في التفسير، كما لا ننكر أن هناك اختلافا بين قولين أو أقوال لشخص واحد منهم، ولكن هذا الاختلاف قلنا عنه فيما سبق مفصلا: إن معظمه يرجع إلى اختلاف عبارة وتنوع، لا اختلاف تناقض وتضاد، فما كان من هذا القبيل، فالجمع بينه سهل ميسور، وما لم يمكن فيه الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم إن استويا في الحصة عنه، وإلا فالصحيح المقدم.
أما إذا تعارضت أقوال جماعة من الصحابة وتعذر الجمع أو الترجيح، فيقدم ابن عباس على غيره، لأن النبي صلى الله وسلم بشره بذلك حيث قال: ((اللهم علمه التأويل)). وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لحديث ((أفرضكم زيد)).
أما ما ساقه على سبيل المثال من اختلاف الرواية عن ابن عباس في تعيين الذبيح، فقد رجعت إلى ابن جرير في تفسيره، فوجدته قد ذكر عن ابن عباس هاتين الروايتين المختلفتين، وساق كل رواية منها بأسانيد تتصل إلى ابن عباس، بعضها يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها موقوف عليه.
وابن جرير ـ كما نعلم ـ لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، ولو أننا عرضنا هاتين الروايتين على قواعد المحدثين في نقد الرواية والترجيح، لتبين لنا لكل وضوح وجلاء، أن الرواية القائلة بأن الذبيح هو إسماعيل، أصح من غيرها وأرجح مما يخالفها، لأنها مؤيدة بأدلة كثيرة يطول ذكرها، أيضاً فإن الرواية التي يذكرها ابن جرير عن ابن عباس مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفيدة أن الذبيح هو إسحاق، في سندها الحسن ابن دينار عن على بن زيد، والحسن بن دينار متروك، وعلى بن زيد منكر الحديث، كما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
أما باقي الروايات الموقوفة على ابن عباس، والتي تفيد أن الذبيح هو إسحاق، فهي ـ وإن كانت صحيحة الأسانيد ـ محمولة على أن ما تضمنته من أن الذبيح هو إسحاق، كان رأي ابن عباس في أول الأمر، لأنه سمع ذلك من بعض الصحابة الذين كانوا يحدثون في مثل هذا بما سمعوه من كعب وغيره من مسلمي اليهود، ثم علم بعد: أن ذلك قول اليهود فرجع عنه وصرح بنقيضه، كما قال ابن جرير: ((حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمر بن قيس عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المفدي إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود))، وهذا الأثر صحيح عن ابن عباس، إسناده على شرط الصحيح، وهو كما ترى صريح في تكذيب اليهود فيما زعموه، وهو يقضي على كل أثر بخلافه، وبهذا الطريق تنتظم الآثار الواردة عن ابن عباس في هذا الباب. قال ابن كثير في تفسيره (جـ4 ص 17) بعدما ساق الروايات في أن الذبيح هو إسحاق: ((وهذه الأقوال ـ والله أعلم ـ كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً، فربما استمع له عمر رضي الله عنه، فترخص الناس في استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة ـ والله أعلم ـ حاجة إلى حرف واحد مما عنده )) أ هـ.
وأما ما رمى إليه من جعل التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم، وادعاؤه أنه لا توجد له وحدة تامة أو كيان قائم، فهذا شطط منه في الرأي، ولا يكاد يسلم له هذا المدعي، لأن المأثور الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم له مكانته وقيمته، } إن هو إلا وحي يوحى { .. وأما ما صح عن الصحابة فغالبه مما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقليل منه قالوه عن نظر منهم واجتهاد، وحتى هذا القليل ـ عند من لا يرى أن له حكم المرفوع ـ له أيضاً قيمته ومكانته، ولا يجوز العدول عنه إذا صح إلى غيره، لأنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح.
وبعد .. فهل يعد التفسير المأثور مساوياً للتفسير بالعلم؟ اللهم إن هذا لا يقوله منصف.
* * *
· قيمة التفسير الموضوع:
ثم إن هذا التفسير الموضوع، لو نظرنا إليه من ناحيته الذاتية بصرف النظر عن ناحيته الإسنادية، لوجدنا أنه لا يخلو من قيمته العلمية، لأنه مهما كثر الوضع في التفسير فإن الوضع ينصب على الرواية نفسها، أما التفسير في حد ذاته فليس دائماً خيالياً بعيدا عن الآية، وإنما هو ـ في كثير من الأحيان ـ نتيجة اجتهاد علمي له قيمته، فمثلا من يضع في التفسير شيئاً وينسبه إلى على أو إلى ابن عباس، لا يضعه على أنه مجرد قول يلقيه على عواهنه، وإنما هو رأي له، واجتهاد منه في تفسير الآية، بناه على تفكيره الشخصي، وكثيراً ما يكون صحيحاً، غاية الأمر أنه أراد لرأيه رواجاً وقبولا، فنسبه إلى من نسب إليه من الصحابة. ثم إن هذا التفسير المنسوب إلى على أو ابن عباس لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية غالباً، وإنما الشئ، الذي لا قيمة له فيه هو نسبته إلى على أو ابن عباس.
فالموضوع من التفسير ـ والحق يقال ـ لم يكن مجرد خيال أو وهم خلق خلقاً، بل له أساس ما، يهم الناظر في التفسير درسه وبحثه، وله قيمته الذاتية وإن لم يكن له قيمته الإسنادية.


 

ثانياً: الإسرائيليات
· تمهيد : في بيان المراد بالإسرائيليات ومدى الصلة بينها وبين القرآن:
لفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودي للتفسير، وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه، إلا أنا نريد به ما هو أوسع من ذلك وأشمل، فنريد به ما يعم اللون اليهودي واللون النصراني للتفسير، وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية.
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ الإسرائيليات، من باب التغليب للجانب اليهودي على الجانب النصراني، فإن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة أهله، وظهور أمرهم، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
كان لليهود ثقافة دينية، وكان للنصارى ثقافة دينية كذلك، وكلتا الثقافتين كان لها أثر في التفسير إلى حد ما.
أما اليهود، فإن ثقافتهم تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التي أشار إليها القرآن بقوله: } إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور { ودل على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله : } وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص {.
وكثيراً ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ التوراة ويطلقونه على كل الكتب المقدسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره. وتسمى التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسى بطريق الكتابة، وإنما تحملوها ونقلوها بطريق المشافهة. ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دونت وعرفت باسم التلمود، ووجود بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودي، والقصص، والتاريخ، والتشريع، والأساطير.
وأما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد ـ في الغالب الأهم ـ على الإنجيل وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التي نزلت على الرسل فقال : } ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل { وغير هذا كثير من آيات القرآن التي تشهد له بذلك.
والأناجيل المعتبرة عند النصارى يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل. اسم: العهد الجديد. والكتاب المقدس لدى النصارى يشمل: التوراة والإنجيل ويطلق عليه: العهد القديم والعهد الجديد.
وكان طبيعياً أن يشرح الإنجيل بشروح مختلفة، كانت فيما بعد منبعاً من منابع الثقافة النصرانية، كما وجد بجوار ذلك ما زاده النصارى من القصص، والأخبار، والتعاليم. التي زعموا أنهم تلقوها عن عيسى عليه السلام، وهذا كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية.
إذن، فقد كانت التوراة المصدر الأول لثقافة اليهود الدينية، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصارى الدينية.
وإذا نحن أجلنا النظر في التوراة والإنجيل نجد أنهما قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام، وذلك على اختلاف في الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء ـ مثلا ـ فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحى التوراة أو الإنجيل، فتراه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها كما أنه لا يذكر في الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت على أيديهم بعض الحوادث. ويدخل في تفاصيل الجزئيات، بل يتخير من ذلك ما يمس جوهر الموضوع، وما يتعلق بموضع العبرة.
وإذا نحن تتبعنا الموضوعات التي اتفق في ذكرها القرآن والتوراة، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعاً منها، وقارنا بين ما جاء في الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهراً جليا:
فمثلا قصة آدم عليه السلام، ورد ذكرها في التوراة، كما وردت في القرآن في مواضع كثيرة، أطولها ما ورد في سورة البقرة، وما ورد في سورة الأعراف. وبالنظر في هذه الآيات من السورتين، نجد أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التي نهى آدم وزوجه عن الأكل منها، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه. كما لم يتعرض للبقعة التي هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة ... إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفصيل وتوضيح.
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان في التوراة يجد بعدها أنها قد تعرضت لكل ذلك وأكثر منه. فأبانت أن الجنة في عدن شرقا، وأن الشجرة التي نهيا عنها كانت في وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر، وأن الذي خاطب حواء هو الحية، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي تقمصها إبليس، بأن جعلها تسعى على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها في حبلها ... إلى آخر ما ذكر فيها مما يتعلق بهذه القصة(1).
ومثلا نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت في الإنجيل فمن ذلك قصة عيسى ومريم، ومعجزات عيسى عليه السلام، كل ذلك جاء به القرآن في أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة ومكان العبرة، فلم يتعرض القرآن لنسب عيسى مفصلا، ولا لكيفية ولادته، ولا للمكان الذي ولد فيه، ولا لذكر الشخص الذي قذفت به مريم، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء، ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياء الموتى ..
مع أننا لو نظرنا في الإنجيل لوجدناه قد تعرض لنسب عيسى ولكيفية ولادة مريم له، ولذكر الشخص الذي قذفت به مريم(2)، ولنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ولحوادث جزئية من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولكثير من مثل هذا التفصيل الموسع الذي أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا.
وبعد ... فهل يجد المسلمون هذا الإيجاز في كتابهم، ويجدون بجانب ذلك تفصيلا لهذا الإيجاز في كتب الديانات الأخرى، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضح لما فيه من غموض ؟ .. هذا ما نريد أن نعرض له في هذا البحث، ليتبين لنا كيف دخلت الإسرائيليات في التفسير، وكيف تطور هذا الدخول، وإلى أي حد تأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية.
      
* * *
· مبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير وتطوره :
نستطيع أن نقول: إن دخول الإسرائيليات في التفسير، أمر يرجع إلى عهد الصحابة رضى الله عنهم، وذلك نظراً لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في ذكر بعض المسائل كما تقدم، مع فارق واحد، هو الإيجاز في القرآن، والبسط والإطناب في التوراة والإنجيل. وسبق لنا القول بأن الرجوع إلى أهل الكتاب، كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابي إذا مر على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلا إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص الديني.
غير أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شئ، ولم يقبلوا منهم كل شئ، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحا للقصة وبيانا لما أجمله القرآن منها، مع توقفهم فيما يلقي إليهم، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب مادام يحتمل كلا الأمرين، امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: } آمنا بالله وما أنزل إلينا {(1) .. الآية
كما أنهم لم يسألوهم عن شئ مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام، اللهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد والتقوية لما جاء به القرآن. كذلك كانوا لا يعدلون عما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك إلى سؤال أهل الكتاب، لأنه إذا ثبت الشئ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فليس لهم أن يعدلوا عنه إلى غيره، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعا من اللهو والعبث، كالسؤال عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعا من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح، ونوع خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر .. وغير ذلك، ولهذا قال الدهلوي بعد أن بين أن السؤال عن مثل هذا تكلف مالا يعني: ((وكانت الصحابة رضى الله عنهم يعدون مثل ذلك قبيحا من قبيل تضييع الأوقات))(2)
كذلك دان الصحابة لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافى مع العقيدة. بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ، ردوا عليهم خطأهم. وبينوا لهم وجه الصواب فيه، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (( فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه)) وأشار بيده يقللها(3)
فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية، فهل هي في جمعة واحده من السنة أو في كل جمعة منها؟ فنجد أبا هريرة رضى الله عنه يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه كعب: بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ويبين له: أنها في كل جمعة فيرجع كعب إلى التوراة، فيرى الصواب مع أبى هريرة فيرجع إليه(1)، كما نجد أبا هريرة أيضا يسأل عبدالله بن سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له: أخبرني ولا تضن علي، فيجيبه عبدالله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى)) وتلك الساعة لا يصلى فيها؟ فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلى)) ؟ ... الحديث(2).
فمثل هذه المراجعة التي كانت بين أبى هريرة وكعب تارة، وبينه وبين ابن سلام تارة أخرى، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا، ويردون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب.
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما فهموه من الإباحة في قوله عليه السلام: ((بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))(3)
كما أنهم لم يخالفوا قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا .. الآية ))(4) ولا تعارض بين هذين الحديثين، لأن الأول أباح لهم ان يحدثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب، لما فيها من العبرة والعظة، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح(5) عند شرحه لهذا الحديث: وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم. وهو نظير قوله: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم))، ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه ا هـ.
وأما الحديث الثاني، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب، مما يكون محتملا للصدق والكذب، لأنه ربما كان صدقاً فيكذبونه، أو كذبا فيصدقونه، فيقعون بذلك في الحرج. أما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه، وأما ما وافقه فنحن في حل من تصديقه.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا، لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذباً فتصدقوه، فتقعوا في الحرج. ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاته. نبه على ذلك الشافعي رحمه الله)) ... ثم قال: ((وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك))(1).
وأما ما أخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار، من حديث جابر ابن عبدالله: ((أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب فقال: (( أمتهوكون(2) فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني))(3) فلا يعارض ما قلناه من الجواز، لأن النهي الوارد هنا كان في مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام. والإباحة بعد أن عرفت الأحكام واستقرت، وذهب خوف الاختلاط .. قال الحافظ ابن حجر في الفتح(4) : ((وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار)) هـ ا.
ويمكن أن ندفع ما يتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال: ((هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه، لأن شرعنا مكتف بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا، والأخبار عن الأمم السالفة ))(5).
ومن هذا كله يتبين لنا: أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة، كما يتبين لنا المقدار الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب .
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث، وما عرفناه من حرص الصحابة على امتثال ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، نستطيع أن نقر الأستاذ جولدزيهر والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذي وجهاه إلى ابن عباس خاصة، وإلى الصحابة عامة، من رجوعهم إلى أهل الكتاب في كل شئ، وقبولهم لما نهى الرسول عن أخذه من أهل الكتاب، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس، كما ذكرنا الأثر الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس، وفيه يشدد ـ رضي الله عنه ـ النكير على من يأخذون من أهل الكتاب ويصدقونهم في كل شئ، فهل يعقل بعد هذا، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله، ومراجعة أبي هريرة لكعب الأحبار وعبدالله بن سلام، أن نعترف بتهاون الصحابة وخالفتهم لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ؟ اللهم إنا لا نقر ذلك ولا نرضاه.
وأما ما ذكره الأستاذ جولدزيهر: من أن ابن عباس كان يرجع لرجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدي في تفسير القرآن(1)، فعلى فرض صحة ذلك. فإنا لا نكاد نصدق أن ابن عباس كان يرجع إليه في كل شئ، بل كان يرجع إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز، وليس من شك في ذلك بعد ما عرفت من شدة نكير ابن عباس على من كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم.
وأما ما اعتمد عليه هذا المستشرق في دعواه هذه، من أن الطبري عند تفسيره للفظ البرق في قوله تعالى في الآية (12) من سورة الرعد: } هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً { .. نسب إلى ابن عباس أنه قال: إن أبا الجلد يقول: إن معناه المطر فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى، لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد ، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق فقال: البرق: الماء))(2) وهذا إسناد منقطع، لأن موسى بن سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس، ولم يكن مولى له، وإنما كان مولى العباسيين، وروى عن أبى جعفر الباقر الذي كان بعد ابن عباس بمدة طويلة(3) ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولى ابن عباس سهو منه، أو لعله خطأ وقع أثناء الطبع.
ثم إن سؤال ابن عباس عن معنى البرق، ليس سؤالا عن أمر يتعلق بالعقيدة أو الأحكام، وإنما هو سؤال يرجع إلى تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية، وليس في هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في نهيه عن سؤال أهل الكتاب. على أن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدق أبا الجلد فيما قال، وكل ما فيه: أنه حكي قوله في البرق.
وأما ما نسب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدث منهما، فليس على إطلاقه، بل كان يحدث منهما في حدود ما فهمه من الإذن في قوله عليه السلام: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) كما نص على ذلك ابن تيمية(1).
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم. أما التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية في التفسير، ويرجع ذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين أرادوا أن يسدوا هذه الثغرات القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصارى، فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء : مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150هـ الذي نسبه أبو حاتم إلى أنه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما في كتبهم(2)} وان من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا {(3). يرجع إلى فتح القسطنطينية، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد، فقد جاء عنه أنه قال: وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: (( أما مكة فتخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ... ثم ذكر بلداً(4). وروى عن وهب بن منبه : أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمبنية، وأرمينية، آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى، فتحت قسطنطينية على يد رجل من بنى هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع. وخراب البصرة من قبل الغرق      [ الغرق ] ، وخراب الأيلة من عدو يحصرهم براً وبحراً، وخراب الري من الديلم، وخراب خراسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع)) ا هـ . بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر ـ عصر التابعين ـ يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالإسلام في مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل، والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل ابن سليمان، كان يرى أن قوله تعالى:
ثم جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرط في الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا. ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يروى لهم وإن كان لا يتصوره العقل !! . واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار التي أصبح الكثير منها نوعا من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيليات، الذي كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها.
* * *
· مقالة ابن خلدون في الإسرايليات :
ونرى بعد هذا أن نذكر عبارة ابن خلدون في مقدمته، ليتبين لنا أسباب الاستكثار من هذا المرويات الإسرائيلية، وكيف تسربت إلى المسلمين، فإنه خير من كتب في هذا الموضوع، وإليك نص عبارته :
قال رحمه الله ((... وقد جمع المتقدمون في ذلك ـ يعني التفسير النقلي ـ وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين، والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم. وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شئ مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم، وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبدالله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا الكتب بهذه المنقولات، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم، وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ....)).
ومن هذا يتضح لنا أن ابن خلدون أرجع الأمر إلى اعتبارات اجتماعية وأخرى دينية، فعد من الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والأمية على العرب وتشوقهم لمعرفة ما تتشوق إليه النفوس البشرية، من أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، وهم إنما يسألون في ذلك أهل الكتاب قبلهم.
وعد من الاعتبارات الدينية التي سوغت لهم تلقى المرويات في تساهل وعدم تحر للصحة (( أن مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل))
وسواء أكانت هذه هي كل الأسباب أم كانت هناك أسباب أخرى، فإن كثيراً من كتب التفسير قد اتسع لما قبل من ذلك وأكثر، حتى أصبح ما فيها مزيجا متنوعا من مخلفات الأديان المختلفة، والمذاهب المتباينة.
* * *
· أثر الإسرائيليات في التفسير:
ولقد كان لهذه الإسرائيليات التي أخذها المفسرون عن أهل الكتاب وشرحوا بها كتاب الله تعالى أثر سيئ في التفسير، ذلك لأن الأمر لم يقف على ما كان عليه في عهد الصحابة، بل زادوا على ذلك فرووا كل ما قيل لهم إن صدقا وإن كذبا، بل ودخل هذا النوع من التفسير كثير من القصص الخيالي المخترع، مما جعل الناظر في كتب التفسير التي هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئاً مما جاء فيها، لاعتقاده أن الكل من واد واحد. وفي الحق أن المكثرين من هذه الإسرائيليات وضعوا الشوك في طريق المشتغلين بالتفسير، وذهبوا بكثير من الأخبار الصحيحة بجانب ما رووه من قصص مكذوب وأخبار لا تصح، كما أن نسبة هذه الإسرائيليات التي لا يكاد يصح شئ منها إلى بعض من آمن من أهل الكتاب، جعلت بعض الناس ينظر إليهم بعين الاتهام والريبة. وسوف نعرض لهذا فيما بعد، ونرد عليه إن شاء الله تعالى.
* * *
· قيمة ما يروى من الإسرائيليات:
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة، وهي ما يأتي:
القسم الأول: ما يعلم صحته بأن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحاً، وذلك كتعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحاً على لسان رسول الله صلى لله عليه وسلم كما عند البخاري(1) أو كان له شاهد من الشرع يؤيده. وهذا القسم صحيح مقبول.
القسم الثاني: ما يعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا، أو كان لا يتفق مع العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثاني، وهذا القسم تتوقف فيه، فلا تؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ...)) الآية.
وهذا القسم غالبه مما ليس فيه فائدة تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا اختلافا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أي شجرة، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين بعض البقرة الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى .. إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن ولا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم أو دينهم.
ثم إذا جاء شئ من هذا القبيل ـ أعنى ما سكت عنه الشرع ولم يكن فيه ما يؤيده أو يفنده ـ عن أحد من الصاحية بطريق صحيح، فإن كان قد جزم به فهو كالقسم الأول، يقبل ولا يرد، لأنه لا يعقل أن يكون قد أخذه عن أهل الكتاب بعدما علم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم. وإن كان لم يجزم به فالنفس أسكن إلى قبوله، لأن احتمال ان يكون الصحابي قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه منه، أقوى من احتمال السماع من أهل الكتاب، ولا سيما بعد ما تقرر من أن الرواية من علماء التفسير على ذلك، أما إن اتفقوا عليه. فإنه يكون أبعد من أن يكون مسموعاً من أهل الكتاب، وحينئذ تسكن النفس إلى قبوله والأخذ به. والله أعلم.
* * *
· موقف المفسر إزاء هذه الإسرائيليات:
علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت في ديننا واستفحل خطرها، كما علما أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) قاعدة مقررة لا يصح العدول عنها بأي حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسر أن يكون يقظاً إلى أبعد حدود اليقظة، ناقداً إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من دقة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن، فمثلا حيث وجد لقوله تعالى: } ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب { .. مجمل في السنة النبوية الصحيحة وهو قصة ترك ((إن شاء الله)) والمؤخذة عليه فلا يرتكب قصة صخر المارد.
كذلك يجب على المفسر أن يلحظ أن الضروري يتقدر بقدر الحاجة، فلا يذكر في تفسيره شيئاً من ذلك إلا بقدر ما يقتضيه بيان الإجمال، ليحصل التصديق بشهادة القرآن فيكف اللسان عن الزيادة.
نعم، إذا اختلف المتقدمون في شئ في هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم، فلا مانع من نقل المفسر لهذه الأقوال جميعاً، على أن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وليس له أن يحكي الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وليس له أن يحكي الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، لأن مثل هذا العمل يعد ناقصا لا فائدة فيه مادام قد خلط الصحيح بالعليل، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يسبب له الحيرة والاضطراب.
على أن من الخير للمفسر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يعد صارفا عن القرآن، وشاغلا عن التدبر في حكمه وأحكامه، وبدهي أن هذا أحكم وأسلم.
هذا، وقد يشير إلى ما قلناه من جواز نقل الخلاف عن المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف منها وتصحيح الصحيح، وأن من الخير أن يمسك الإنسان عن الخوض فيما لا طائل تحته، ما جاء في الآية (22) من سورة الكهف من قوله تعالى : } سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل، فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً { .. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة ـ كما يقول ابن تيمية ـ على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته، إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الإطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا } قل ربي أعلم بعدتهم { .. فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال : } فلا تمار فيهم إلا مراءاً ظاهراً { .. أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب(1).
* * *
· أقطاب الروايات الإسرائيلية:
يتصفح الإنسان كتب التفسير بالمأثور. فلا يلبث أن يلحظ أن غالب ما يرى فيها من إسرائيليات، يكاد يدور على أربعة أشخاص، هم : عبدالله ابن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج .. وهؤلاء الأربعة اختلفت أنظار الناس في الحكم عليهم والثقة بهم، فمنهم من ارتفع بهم عن حد التهمة، ومنهم من رماهم بالكذب وعدم التثبت في الرواية ولهذا أرى أن أعرض لكل فرد منهم، لأكشف عن قيمته في باب الرواية، وبخاصة ما يرجع من ذلك إلى ناحية التفسير، لنرى أي الفريقين أصدق في حكمه، وأدق في نقده.


 

1- عبدالله بن سلام
· ترجمته:
هو أبو يوسف، عبدالله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي. الأنصاري، حلف بني عوف من الخزرج، وهو من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام. أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ويحدثنا البخاري عن قصة إسلامه فيقول في ضمن حديث ساقه في باب الهجرة : (( .. فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عنى قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر اليهود .. ويلكم، اتقوا الله ، فو الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وأني جئتكم بحق فأسلموا)) قالوا : ما نعلمه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، قالها ثلاث مرات، قال: فأي رجل فيكم عبدالله ابن سلام؟ قالوا: ذلك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا الله، ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: يا ابن سلام .. اخرج عليهم، فخرج، فقال: يا معشر اليهود.. اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
قيل: وكان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله، وشهد له بالجنة. ونجد البخاري رضي الله عنه ـ عند الكلام عن مناقب الأنصار ـ يفرد لعبد الله بن سلام بابا مستقلا في مناقبه، فروى فيما روى من ذلك بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص أنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله ابن سلام، وقال: فيه نزلت هذه الآية: ((وشهد من بني إسرائيل)).. الآية(2).
ومما يذكر عنه رحمة الله: أنه وقف خطيباً في المتألبين على عثمان رضي الله عنه يدافع عنه، ويخذّل الثائرين، فقد روى عبد الملك بن عمير عن ابن أخي عبد الله بن سلام، قال له عثمان: ((لما أريد قتل عثمان رضي الله عنه، جاء عبد الله ابن سلام، قال: ما جاء بك ؟ قال: جئت في نصرك، قال: اخرج إلى الناس فقال: يا أيها الناس .. إنه كان اسمي في الجاهلية: فلاناً، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله عز وجل، ونزل في : } شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم {.. ونزل في : } قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب {(1).. إن لله سيفا مغمودا. وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله لئن قتلتموه لتطردن جيرانكم من الملائكة وليسلن سيف الله المغمود فيكم فلا يغمد إلى يوم القيامة. قالوا: اقتلوا اليهودي .. وقتلوا عثمان)) ..
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابناه: يوسف ومحمد، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وأبو بردة بن أبي موسى، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وشهد مع عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس والجابية. ومات بالمدينة سنة 43هـ ( ثلاث وأربعين من الهجرة )، وقيل غير ذلك. وقد عده بعضهم في البدريين، أما ابن سعد فذكره في الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق وما بعدها.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة:
أما مبلغه من العلم، فيكفى ما جاء في حديث البخاري السابق من إخباره عن نفسه: أنه أعلم اليهود وابن أعملهم، وإقرار اليهود بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. والحق أنه اشتهر بين الصحابة بالعلم، حتى لقد روى أنه لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، فقال: أجلسوني .. قال: إن العلم والإيمان عند أربعة رهط : عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبدالله بن مسعود، وعند عبدالله بن سلام الذي كان يهوديا فأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة. اهـ
وليس عجيبا أن يكون عبدالله بن سلام في هذه المكانة العالية من العلم بعد أن اجتمع لديه علم التوراة وعلم القرآن، وبعد أن امتزجت فيه الثقافتان اليهودية والإسلامية، ولقد نقل عنه المسلمون كثيرا مما يدل على علمه بالتوراة وما حولها، ونجد ابن جرير الطبري ينسب إليه في تاريخه كثيراً من المسائل الإسرائيلية، ويرويها كثير من المفسرين في كتبهم.
ونحن أمام ما يروى عنه من ذلك لا نزيف كل ما قيل، ولا نقبل كل ما قيل، بل علينا أن نعرض كل ما يروى عنه على مقياس الصحة المعتبر في باب الرواية، فما صح قبلناه، وما لم يصح رفضناه.
هذا، وإنا لا نستطيع أن نتهم الرجل في علمه، ولا في ثقته وعدالته، بعد ما عملت أنه من خيرا الصحابة وأعلمهم، وبعد ما جاء فيه من آيات القرآن، وبعد أن اعتمده البخاري وغيره من أهل الحديث، كما أننا لم نجد من أصحاب الكتب التي بين أيدينا من طعن عليه في علمه، أو نسب إليه من التهم مثل ما نسب إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه(1).
* * *
2- كعب الأحبار
· ترجمته :
هو أبو إسحاق، كعب بن ماتع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، من آل ذي رعين، وقيل من ذي الكلاعِ، وأصله من يهود اليمن، ويقال: إنه أدرك الجاهلية وأسلم في خلافة ِأبي بكر، وقيل: في خلافة عمر، وقيل: إنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت هجرته، وقال ابن حجر في الفتح: إن إسلامه في خلافة عمر أشهر، وبعد إسلامه انتقل إلى المدينة، وغزا الروم في خلافة عمر، ثم تحول في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى أن مات بحمص سنة 32هـ ( اثنتين وثلاثين من الهجرة ) على أرجح الأقوال في ذلك. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام وقال: كان على دين يهود فأسلم وقدم المدينة، ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، وقد بلغ مائة وأربعين سنة. وقال أبو مسهر: والذي حدثني به غير واحد: أنه كان مسكنه اليمن، فقدم على أبى بكر، ثم أتى الشام فمات به. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عمر، وصهيب، وعائشة. وروى عنه معاوية، وأبو هريرة، وابن عباس، وعطاء بن أبي رباح وغيرهم.
* * *
· مبلغه من العلم :
كان كعب بن ماتع عظيم من العلم، ولهذا كان يقال له كعب الحبر وكعب الأحبار، ولقد نقل عنه في التفسير وغيره ما يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية والثقافة الإسلامية، ولم يؤثر عنه أنه ألف كما ألف وهب بن منبه، بل كانت تعاليمه كلها ـ على ما يظهر لنا وما وصل إلينا ـ شفوية تناقلها عنه أصحابه ومن أخذوا عنه. وقد جاء في الطبقات الكبرى حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبدالله بن قيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ(1)، وهذا يدلنا على أن كعبا كان لا يزال بعد إسلامه يرجع إلى التوراة والتعاليم الإسرائيلية. وقال ابن سعد: قالوا: ذكر أبو الدرداء كعبا فقال: إن عند ابن الحميري لعلما كثيرا. وروى معاوية بن صالح عن عبدالرحمن بن جبير أنه قال: قال معاوية: ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إن عمر بن العاص أحد الحكماء، ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا لمفرطين. وفي تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة، من طريق ابن أبي ذئب، أن عبدالله بن الزبير قال: ما أصبت في سلطاني شيئاً إلا قد أخبرني به كعب قبل أن يقع(2).
* * *
· ثقته وعدالته :
أما ثقته وعدالته فهذا أمر نقول به، ولا نستطيع أن نطعن عليه كما طعن بعض الناس، فابن عباس على جلالة قدره، وأبو هريرة على مبلغ علمه، وغيرهما من الصحابة كانوا يأخذون عنه في مواضع من صحيحه في أواخر كتاب الإيمان، كما نرى أبا داوود والترمذي والنسائي يخرجون له، وهذا دليل على أن كعبا كان ثقة عند هؤلاء جميعاً، وتلك شهادة كافية لرد كل تهمة تلصق بهذا الحبر الجليل.
* * *
3- وهب بن منبه
· ترجمته :
هو أبو عبدالله، وهب بن منبه بن سيج بن ذي كناز، اليماني الصنعاني، صاحب القصص، من خيرا علماء التابعين. قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: كان من أبناء فارس، وأصل والده ((منبه)) من خراسان من أهل هراة، أخرجه كسرى منها إلى اليمن فأسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان وهب بن منبه يختلف إلى هراة ويتفقد أمرها، وقيل: إنه تولى قضاء صنعاء. قال إسحاق بن إبراهيم بن عبدالرحمن الهروى: ولد سنة 34هـ (أربع وثلاثين) في خلافة عثمان، وقال ابن سعد وجماعة: مات سنة 110هـ (عشر ومائة)، وقيل غير ذلك.
روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وأنس، وغيرهم، وروى عنه ابناه: عبدالله وعبد الرحمن، وعمر بن دينار، وغيرهم. وأخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وأبو داوود.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة :
كان وهب بن منبه واسع العلم، كثير الاطلاع على الكتب القديمة، محيطا بأخبار كثيرة وقصص يتعلق بأخبار الأول ومبدأ العالم، ومما يؤثر عنه أنه ألف كتابا في المغازي(1)، ويحدثنا ابن خلكان: أنه رأى لوهب ابن منبه تصنيفا ترجمه بذكر الملوك المتوجة من حمير، وأخبارهم، وقصصهم، وقبورهم وأشعارهم، في مجلد واحد، قال: وهو من الكتب المفيدة(2).
وقال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه: حج عامة الفقهاء سنة مائة فحج وهب، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحسن، وهم يريدون أن يتذاكروا القدر، قال: فأمعن في باب الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شئ، قال أحمد: وكان يتهم بشئ من القدر ثم رجع وقال حماد بن سلمة عن أبي سنان: سمعت وهب بن منبه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء في كلها ((من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر)) فتركت قولي. وقال الجوزجاني: كان وهب كتب كتابا في القدر ثم حدث أنه ندم عليه.
فأنت ترى من بين هذه الأخبار أن وهباً كان على ناحية عظيمة من المعرفة بالكتب الإلهية القديمة، كما ترى أنه لم يثبت على رأيه وعقيدته في القدر، بل تركها بعد ما تبين له الحق، وندم على ما كان منه بعد أن ظهر له الصواب، وبعد رجوعه عن رأيه لا يصح أن نطعن عليه من هذه الناحية، ولقد كان وهب يرى من نفسه أنه قد جمع علم ابن سلام وعلم كعب، ويحدث هو بذلك عن نفسه فيقول: يقولون: عبدالله بن سلام أعلم أهل زمانه، وكعب أعلم أهل زمانه، أفرأيت من جمع علمهما؟ ـ يريد نفسه ـ .
* * *
· مطاعن بعض الناس عليه :
    ومع تلك المنزلة العالية التي كان عليها وهب، طعن عليه بعض الناس كما طعن على كعب، ورموه بالكذب والتدليس وإفساد عقول بعض المسلمين وعقائدهم، وقد سمعت مقالة السيد محمد رشيد رضا فيه وفي كعب، وسمعت الرد عليه، كما سمعت مقالة الأستاذ أحمد أمين وما تعقبناه به.
4- عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
· ترجمته :
هو أبو خالد، أو أبو الوليد، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الأموي مولاهم. أصله رومي نصراني. كان من علماء مكة ومحدثيهم، وهو من أول من صنف الكتب بالحجاز، وهو قطب الإسرائيليات في عهد التابعين، ولو أنا رجعنا إلى تفسير ابن جرير الطبري، وتتبعنا الآيات التي وردت في النصارى، لوجدنا كثيراً مما يرويه ابن جرير في تفسير هذه الآيات يدور على عبدالله، الذي يعبر عنه دائماً بـ ((ابن جريج)).
روى عن أبيه، وعطاء بن أبي رباح، وزيد بن أسلم، والزهري، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد العزيز ومحمد، الأوزاعي، والليث، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحماد بن زيد، وغيرهم. قال ابن سعد: ولد سنة 80 هـ (ثمانين)، وأما وفاته فمختلف فيها، فمنهم من قال: سنة 150هـ ( خمسين ومائة )، ومنهم من قال: سنة 159هـ ( تسع وخمسين ومائة ). وقيل غير ذلك.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة:
ابن جريج ـ كما قيل ـ هو أول من صنف الكتب بالحجاز، ويعدونه من طبقة مالك بن أنس وغيره ممن جمعوا الحديث ودونوه. قال عبدالله ابن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: من أول من صنف الكتب؟ قال: ابن جريج وابن أبي عروبة. وقال ابن عيينة: سمعت أخي عبد الرزاق بن همام عن ابن جريج يقول: مادون العلم تدوين أحد. وقد عرف عن ابن جريج انه كان رحالة في طلب العلم، فقد ولد بمكة ثم طوف في كثير من البلاد، فرحل إلى البصرة واليمن وبغداد. ويقول ابن خلدون في العبر إنه لم يطلب العلم إلا في الكهولة، ولو سمع في عنفوان شبابه لحلم عن غير واحد من الصحابة، فإنه قال: كنت أتتبع الأشعار العربية والأنساب فقيل لي: لو لزمت عطاء؟ فلزمته ثمانية عشر عاماً ا هـ(1).
وقد رويت عن ابن جريج أجزاء كثيرة في التفسير عن ابن عباس، منها الصحيح، ومنها ما ليس بصحيح، وذلك لأنه لم يقصد الصحة فيما جمع، بل روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم(2).
أما منزلته من ناحية العدالة، فإنه لم يظفر بإجماع العلماء على توثيقه وتثبته فيما يرويه، وإنما اختلفت أنظارهم فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه. قال فيه العجلي: مكي ثقة. وقال سليمان بن النضر بن مخلد بن يزيد: ما رأيت أصدق لهجة من ابن جريج وعن يحي بن سعيد قال: كنا نسمى كتب ابن جريج كتب الأمانة، وإن لم يحدثك بها ابن جريج من كتابه لم ينتفع به. وقال ابن معين: ثقة في كل ما روى عنه من الكتاب. وعن يحيى ابن سعيد قال: كان ابن جريج صدوقا فإذا قال حدثني فهو سماع. وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال: قال فهو شبه الريح. وقال الدار قطني: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من فقهاء أهل الحجاز وقرائهم ومتقنيهم وكان يدلس. وقال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: أحد الأعلام الثقات يدلس، وهو في نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحواً من تسعين امرأة نكاح متعة، وكان يرى الرخصة في ذلك وكان فقيه أهل مكة في زمانه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها، يعني قوله : أخبرت وحدثت عن فلان(3). وذكر الخزرجي في خلاصته(4) أنه مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة. ولكن نرى الأستاذ أحمد أمين ينقل في ضحى الإسلام(5): أن البخاري لم يوثقه وقال: إنه لا يتابع في حديثه، ولسنا ندري من أين استقى صاحب ضحى الإسلام هذا الكلام الذي عزاه إلى البخاري رضي الله عنه.
هذه هي نظرة العلماء إليه وحكمهم عليه، ونرى أن كثيراً منهم يحكم عليه بالتدليس وعدم الثقة ببعض مروياته، ومع هذا فقد قال فيه الإمام أحمد: إنه من أوعية العلم، ونحن معه في ذلك، بدليل ما تقدم عنه من قوله: ((بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، وكان ابن جريج لا يبالى من أين أخذها)).
وكان الإمام مالك رضي الله عنه يرى فيه أنه لا يبالى من أين يأخذ، فقد روى عنه أنه قال: كان ابن جريج حاطب ليل.
وأخيراً فعلى المفسر أن يكون على حذر فيما روى عن ابن جريج في التفسير حتى لا يروى ضعيفاً، أو يعتمد على سقيم(1).
وبعد ... فهؤلاء هم أقطاب الإسرائيليات، وعليهم يدور كثير مما هو مبثوث في كتب التفسير، وسواء أكان كل ما ينسب إليهم صح عنهم أم وضع عليهم، فقد علمت قيمة كل واحد منهم، وعلمت قيمة ما يروى من هذه الإسرائيليات وما يجوز روايته وما لا يجوز... وهذا هو جهد المقل وغاية ما وصلت إليه في هذا الموضوع الذي التوى، ثم النوى، حتى صار أعقد من ذنب الضب.
* * *


 

ثالثاً: حذف الإسناد
حذف الإسناد هو السبب الثالث والأخير الذي يرجع إليه ضعف التفسير المأثور، وسبق أن أشرنا إلى مبدأ اختصار الأسانيد، ونعود إليه فنقول:
إن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كانوا يتحرون الصحة فيما يتحملون، وكان الواحد منهم لا يروى حديثاً إلا وهو متثبت مما يقول، ولكن لم يعرف عن الصحابة أنهم كانوا يسألون عن الإسناد، لما عرفوا به جميعا، من العدالة والأمانة. وإذا كان الأمر قد وصل ببعضهم إلى أنه كان لا يقبل الحديث إلا بعد أن تثبت عنده صحته بالشهادة أو اليمين كما دلت على ذلك الآثار الكثيرة، فإن الغرض من ذلك هو زيادة التأكد والتثبت، لا عدم الثقة بمن يروون عنه منهم، فقد روى أن عمر قال لأبي بن كعب ـ وقد روى له حديثا ـ لتأتينى على ما تقول ببينة، فخرج فإذا ناس من الأنصار فذكر لهم، قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : أما إني لم أتهمك، ولكن أحببت أن أتثبت)) ا هـ(1).
ثم جاء عصر التابعين، وفيه ظهر الوضع وفشا الكذب، فكانوا لا يقبلون حديثاً إلا إذا جاء بسنده، وثبتت لهم عدالة رواته، أما إن حذف السند، أو ذكر وكان في رواته من لا يوقف بحديثه، فإنهم كانوا لا يقبلون الحديث الذي هذا شأنه، فقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحة عن ابن سيرين أنه قال: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم))(2).
ظل الأمر في عهد التابعين على هذا، فكان ما يرونه من التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، لا يروونه إلا بإسناده، ثم جاء بعد عصر التابعين من جمع التفسير، ودون ما تجمع لديه من ذلك، فألفت تفاسير تجمع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، وأقوال الصحابة والتابعين، مع ذك الأسانيد، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وغيرهما ممن تقدم ذكرهم.
ثم جاء بعد هؤلاء أقوام ألفوا في التفسير، فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال غير معزوة لقائليها، ولم ينحروا الصحة فيما يروون، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل.
ثم ثار كل من يسنح له قول يورده، ومن يخطر بباله شئ يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجئ بعده، ظانا أن له أصلا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف.
وفي الحق أن هذا السبب يكاد يكون أخطر الأسباب جميعاً، لأن حذف الأسانيد جعل من ينظر في هذه الكتب يظن صحة كل ما جاء فيها، وجعل كثيراً من المفسرين ينقلون عنها ما فيها من الإسرائيليات والقصص المخترع على أنه صحيح كله، مع أن فيها ما يخالف النقل ولا يتفق مع العقل.
وإذا كان للوضع خطره، وللإسرائيليات خطرها، فإن هذا الخطر كان من الممكن تلافيه لو ذكرت لنا هذه الأقوال بأسانيدها، ولكن حذفها ـ وللأسف ـ عمى علينا كل شئ، وليت هؤلاء الذين حذفوا الأسانيد وعنوا بجمع شتات الأقوال فعلوا كما فعل ابن جرير من رواية كل قول بإسناده، فهو وإن كان لم يتحر الصحة فيما يرويه، إلا أن عذره في ذلك، أنه ذكر لنا السند مع كل رواية يرويها، وكانوا يرون أنهم متى ذكروا السند فقد خرجوا عن العهدة، فإن أحوال الرجال كانت معروفة في العهد الأول، وبذلك تعرف قيمة ما يروونه من ضعف وصحة.
وبعد ... فهذه هي الأسباب الثلاثة التي يرجع إليها ضعف التفسير المأثور، وكل واحد منها له خطره وأثره في التفسير، وقد أدرك المسلمون أخيراً هذا الخطر، وقدروا ما كان لهذه الأسباب من أثر، فتداعى علماؤهم وأشياخهم إلى تجريد كتب التفسير من هذه الإسرائيليات، وتطهيرها من كل ما دخل عليها، ولكن لم نجد منهم من نشط لهذا العمل، وإنا لنرجو آملين، أن يهيئ الله للمسلمين من بين علمائنا وأشياخنا من ينقد لهم هذه المجموعة المركومة من التفسير النقلي، على هدى قواعد القوم في نقد الرواية متناً وسنداً، ليستبعد منها هذا الكثير الذي لا يستحق البقاء، وليستريح الناظرون في الكتاب الكريم من الوقوف أمام شئ لا أساس له إذا ما حاولوا تفهم آية منه.
ولست أظن أن هذا العلم الشاق المضني يستطيع أن يقوم به فرد وحده، بل لا بد له من جماعة كبيرة، تتفرغ له، ويتسع أمامهم الزمن، وتتوفر لديها جميع المصادر والمراجع التي تتعلق بالموضوع وتتصل به.
ذلك ما نرجوه ونأمله، ونسأل الله تعالى أن يحقق الرجاء ويصدق الأمل ...
* * *


 

أشهر ما دون من كتب التفسير المأثور
وخصائص هذه الكتب
 
لا نريد أن نستقصي هنا جميع الكتب المدونة في التفسير المأثور، لأن هذا أمر لا يتيسر لنا، نظراً لعدم وقوع كثير منها في أيدينا. ولو تيسر لنا لوفقت عند عزمي هذا: وهو أني لا أتعرض لكل كتاب ألف في هذا النوع من التفسير، بل أتكلم عما اشتهر وكثر تداوله فحسب، لأني لو ذهب أتلكم عن جميع ما دون من هذه الكتب، كتاباً، لطال على الأمر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
لهذا رأيت أن أتكلم عن ثمانية كتب منها، هي أهمها وأشهرها وأكثرها تداولا، وسبيلي في هذا: أن أعرض أولا لنبذة مختصرة عن المؤلف، ثم أبين خصائص كل كتاب وطريقة مؤلفه فيه، وهذا الكتب التي وقع عليها اختياري هي ما يأتي :
1- جامع البيان في تفسير القرآن                  : لابن جرير الطبري.
2- بحر العلوم                                   : لأبي الليث السمرقندي
3- الكشف والبيان عن تفسير القرآن        : لأبي إسحاق الثعلبي
4- معالم التنزيل                                 : لأبي محمد الحسين البغوي
5- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : لابن عطية الأندلسي
6- تفسير القرآن العظيم                          : لأبي الفداء الحافظ ابن كثير
7- الجواهر الحسان في تفسير القرآن             : لعبد الرحمن الثعالبي
8- الدر المنثور في التفسير المأثور               : لجلال الدين السيوطي
   وسنتكلم عن كل واحد منها بحسب هذا الترتيب فنقول وبالله التوفيق:
1- جامع البيان في تفسير القرآن ـ للطبري
· التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير، هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام الجليل، المجتهد المطلق، صالح التصانيف المشهورة، وهو من أهل آمل طبرستان، ولد بها سنة 224هـ (أربع وعشرين ومائتين من الهجرة)، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، سنة ست وثلاثين ومائتين، وطوف في الأقاليم، فسمع بمصر والشام والعراق، ثم ألقى عصاه واستقر ببغداد، وبقى بها إلى أن مات سنة عشر وثلاثمائة.
* * *
· مبلغه من العلم والعدالة :
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالقرآن، عارفا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخا، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وهذا هو ابن جرير في نظر الخطيب البغدادي وهي شهادة عالم خبير بأحوال الرجال. وذكر أن أبا العباس بن سريج كان يقول: محمد بن جرير فقيه عالم. وهذه الشهادة جد صادقة، فإن الرجل برع في علوم كثيرة، منها: علم القراءات، والتفسير، والحديث، والفقه. والتاريخ، وقد صنف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنف, فمن مصنفاته: كتاب التفسير الذي نحن بصدده. وكتاب التاريخ المعروف بتاريخ الأمم والملوك، وهو من أمهات المراجع، وكتاب القراءات، والعدد والتنزيل، وكتاب اختلاف العلماء، وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين، وكتاب أحكام شرائع الإسلام، ألفه على ما أداه إليه اجتهاده، وكتاب التبصر في أصول الدين ... وغير هذا كثير من تصانيفه التي تدل على سعة علمه وغزارة فضله.
ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة، سوى كتاب التفسير، وكتاب التاريخ.
وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير. كما اعتبر أبا للتاريخ الإسلامي، وذلك بالنظر لما في هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية. ويقول ابن خلكان: إنه كان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحداً، ونقل: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكره في طبقات الفقهاء في جملة المجتهدين. قالوا: وله مذهب معروف ، وأصحاب ينتحلون مذهب يقال لهم الجريرية، ولكن هذا المذهب الذي أسسه ـ على ما يظهر ـ بعد بحث طويل، ووجد له أتباعاً من الناس، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كثيرة كغيره من مذاهب المسلمين، ويظهر أن ابن جرير كان قبل أن يبلغ هذه الدرجة من الاجتهاد متمذهباً بمذهب الشافعي، يدلنا على ذلك ما جاء في الطبقات الكبرى لابن السبكي، من أن ابن جرير قال: أظهرت فقه الشافعي، وأفتيت به ببغداد عشر سنين، وتلقاه منى ابن بشار الأحول، أستاذ أبي العباس بن سريح. وقال السيوطي في طبقات المفسرين: وكان أولا شافعيا، ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة ا هـ وذكره صاحب لسان الميزان فقال (( ثقة، صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر ...)) ثم قال: أفذع أحمد بن على السليماني الحافظ فقال: كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندعى عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا ان نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يتأني فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير، ولعل السليماني أراد الآتي ـ يريد محمد بن جرير ابن رستم الطبري الرافضي ـ قال: ولو حلفت أن السليماني ما أراد إلا الآتي لبررت، والسليماني حافظ متقن، كان يدري ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل))ا هـ
هذا هو ابن جرير، وهذه هي نظرات العلماء إليه، وذلك هو حكمهم عليه، ومن كل ذلك تتبين لنا قيمته ومكانته.
· التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
يعتبر تفسير ابن جرير من أقوم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع الأول عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، وإن كان في الوقت نفسه يعتبر مرجعا غير قليل الأهمية من مراجع التفسير العقلي، نظراً لما فيه من الاستنباط، وتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، ترجيحا يعتمد على النظر العقلي، والبحث الحر الدقيق.
ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءا من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يعتبر مفقوداً لا وجود له، ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير ((حائل)) الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب، طبع عليها الكتاب من زمن قريب، فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور(1).
ولو أننا تتبعنا ما قاله العلماء في تفسير ابن جرير، لوجدنا أن الباحثين في الشرق والغرب قد أجمعوا الحكم على عظيم قيمته، واتفقوا على أنه مرجع لا غنى عنه لطالب التفسير، فقد قال السيوطي رضي الله عنه (( وكتابه ـ يعني تفسير محمد بن جرير ـ أجل التافسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين))(1). وقال النووي: ((أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري)) وقال أبو حامد الإسفراييني: ((لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً))(2) وقال الشيخ الإسلام ابن تيمية: ((وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير ابن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي ))(3).
ويذكر صاحب لسان الميزان: أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير من ابن خالويه فرده بعد سنين ثم قال ((نظرت فيه من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير )) فابن خزيمة ما شهد هذه الشهادة إلا بعد أن اطلع على ما في هذا التفسير من علم واسع غزير.
هذا وقد كتب ((نولدكه)) في سنة1860م بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب ((لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة، ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقدو تماما، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعاً لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم))(4).
ويظهر مما بأيدينا من المراجع، أن هذا التفسير كان أوسع مما هو عليه اليوم، ثم اختصره مؤلفه إلى هذا القدر الذي هو عليه الآن، كما أن كتابه في التاريخ ظفر بمثل هذا البسط والاختصار، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى(5)(( أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم ... فاختصره في نحو ما اختصر التفسير)) ا هـ.
هذا ونستطيع أن نقول إن تفسير ابن جرير هو التفسير الذي له الأولية بين كتب التفسير، أولية زمنية، وأولية من ناحية الفن والصناعة.
أما أوليته الزمنية، فلأنه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا، وما سبقه من المحاولات التفسيرية ذهبت بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شئ منها، اللهم إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب الخالد الذي نحن بصدده.
وأما أوليته من ناحية الفن والصناعة، فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من الطريقة البديعة التي سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتابا له قيمته ومكانته.
ونريد أن نعرض هنا لطريقة ابن جرير في تفسيره، بعد أن أخذنا فكرة عامة عن الكتاب، حتى يتبين للقارئ أن الكتاب واحد في بابه، سبق به مؤلفه غيره من المفسرين، فكان عمدة المتأخرين، ومرجعا مهماً من مراجع المفسرين، على اختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، فنقول:
· طريقة ابن جرير في تفسره :
تتجلى طريقة ابن جرير في تفسيره، بكل وضوح إذا نحن قرأنا فيه وقطعنا في القراءة شوطا بعيدا، فأول ما نشاهده، أنه إذا أراد أن يفسر الآية من القرآن يقول ((القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا)) ثم يفسر الآية ويستشهد على ما قاله بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو التابعين من التفسير المأثور عنهم في هذه الآية، وإذا كان في الآية قولان أو أكثر، فإنه يعرض لكل ما قيل فيها، ويستشهد على كل قول بما يرويه في ذلك عن الصحابة أو التابعين.
ثم هو لا يقتصر على مجرد الرواية، بل نجده يتعرض لتوجيه الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما نجده يتعرض لناحية الإعراب إن دعت الحال إلى ذلك، كما أنه يستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآية، مع توجيه الأدلة وترجيح ما يختار.
* * *
· إنكاره على من يفسر بمجرد الرأي :
ثم هو يخاصم بقوة أصحاب الرأي المستقلين في التفكير، ولا يزال يشدد في ضرورة الرجوع إلى العلم الراجع إلى الصحابة أو التابعين، والمنقول عنهم نقلا صحيحا مستفيضا، ويرى أن ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح، فمثلا عند ما تكلم عن قوله تعالى في الآية (49) من سورة يوسف ((ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون)) .. نجده يذكر ما ورد في تفسيرها عن السلف مع توجيهه للأقوال وتعرضه للقراءات بقدر ما يحتاج إليه تفسير الآية، ثم يعرج بعد ذلك على من يفسر القرآن برأيه، وبدون اعتماد منه على شئ إلا على مجرد اللغة، فيفند قوله، ويبطل رأيه، فيقول ما نصه ((... وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله ((وفيه يعصرون)).. إلى وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من العصر، والعصر التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي:
صاديا يستغيث غير مغاث              ولقد كان عصرة المنجود
أي المقهور ـ ومن قول لبيد:
نبات وأسرى القوم آخر ليلهم           وما كان وقافا بغير معصر
وذلك تأويل يكفى من الشهادة على خطئه خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين(1).
وكثيراً ما يقف ابن جرير مثل هذا الموقف حيال ما يروى عن مجاهد أو الضحاك أو غيرهما ممن يروون عن ابن عباس.
فمثلا عند قوله تعالى في الآية (65) من سورة البقرة : } ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين { .. يقول ما نصه ((حدثني المثنى، قال : حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: } ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين { قال: (( مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا)) ا هـ ثم يعقب ابن جرير بعد ذلك على قول مجاهد فيقول ما نصه: ((وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف)) .. الخ(2).
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (229) من سورة البقرة أيضاً } تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون {.. نجده يروى عن الضحاك في معنى هذه الآية: أن من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. ثم نقول: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر فيقال تلك حدود الله، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة والذي لا يكون له فيه الرجعة، دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة )) ا هـ(3).
... وهكذا نجد ابن جرير في غير موضع من تفسيره، ينبري للرد على مثل هذه الآراء التي لا تستند على شئ إلا على مجرد الرأي أو محض اللغة.
* * *


 

·    موقفه من الأسانيد:
ثم إن ابن جرير وإن التزم في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها، إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف، لأنه كان يرى ـ كما هو مقرر في أصول الحديث ـ أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة أو الجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة ومع ذلك فابن جرير يقف من السند أحيانا موقف الناقد البصير، فيعدل من يعدل من رجال الإسناد، ويجرح من يجرح منهم، ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها، ويصرح برأيه فيها بما يناسبها، فمثلا نجده عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف } ... فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً { .. يقول ما نصه: (( روى عن عكرمة في ذلك ـ يعني في ضم سين (( سداً )) وفتحها ـ ما حدثنا به أحمد بن يوسف. قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّد، ثم يعقب على هذا السند فيقول: وأما ما ذكره عن عكرمة في ذلك، فإن الذي نقل عن أيوب ((هارون))، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقاة أصحابه))(1).
·     تقديره للإجماع :
كذلك نجد ابن جرير في تفسيره يقدر إجماع الأمة، ويعطيه سلطانا كبيراً في اختيار ما يذهب إليه من التفسير، فمثلا عند قوله تعالى في الآية (230) من سورة البقرة : } ... فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره { .. يقول ما نصه: (( فإن قال قائل : فأي النكاحين عنى الله بقوله: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره؟ النكاح الذي هو جماع؟ أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قيل كلاهما، وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجاً نكاح تزويج ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول، لإجماع الأمة جميعاً، فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره، نكاحا صحيحاً، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها، فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعاً على أن ذلك معناه ))(2).
* * *
·     موقفه من القراءات :
كذلك نجد ابن جرير يعنى بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيراً ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب فمثلا عند قوله تعالى في الآية (81) من سورة الأنبياء : } ولسليمان الريح عاصفة {.. يذكر أن عامة قراء الأمصار قرأوا (( الريح )) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (( الريح )) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه.
ولقد يرجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى أنهم ليقولون عنه: إنه ألف فيها مؤلفاً خاصاً في ثمانية عشر مجلداً، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور(1)، وإن كان هذا الكتاب قد ضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته.
* * *
·     موقفه من الإسرائيليات :
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار مأخوذة من القصص الإسرائيلي، يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وابن جريج والسدي، وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيراً مما رواه عن مسلمة النصارى. ومن الأسانيد التي تسترعى النظر، هذا الإسناد: حدثني ابن حميد، قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أبي عتاب .. رجل من تغلب كان نصرانيا عمراً من دهره ثم أسلم بعد فقرأ القرآن وفقه في الدين، وكان فيما ذكر، أنه كان نصرانياً أربعين سنة ثم عمر في الإسلام أربعين سنة.
يذكر ابن جرير هذا الإسناد، ويروى لهذا الرجل النصراني الأصل خبرا عن آخر أنبياء بني إسرائيل، عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (7) من سورة الإسراء : } أن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وان أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا))(1).
كما نراه عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (94) من سورة الكهف: } قالوا يا ذا القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض { .. الآية .. يسوق هذا الإسناد: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر، اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني من ولد يونن بن يافث ابن نوح .. الخ ))(2).
(( ... وهكذا يكثرا ابن جرير من رواية الإسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة)).
وإذا كان ابن جرير يتعقب كثيراً من هذه الروايات بالنقد، فتفسيره لا يزال يحتاج إلى النقد الفاحص الشامل، احتياج كثير من كتب التفسير التي اشتملت على الموضوع والقصص الإسرائيلي، على أن ابن جرير ـ كما قدمنا ـ قد ذكر لنا السند بتمامه في كل رواية يرويها، وبذلك يكون قد خرج من العهدة، وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات.
* * *


 

2- تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير
 
·    التعريف بمؤلف هذا التفسير :
مؤلف هذا التفسير، هو الإمام الجليل الحافظ، عماد الدين، أو الفداء، إسماعيل بن عمرو بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي، قدم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. سمع من ابن الشحنة، والآمدي، وابن عساكر، وغيرهم، كما لازم المزي وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته. وأخذ عن ابن تيمية، وفتن بحبه، وامتحن بسببه. وذكر ابن قاضي شهبة في طبقاته: أنه كانت له خصوصية بابن تيمية، ومناضلة عنه، وإتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتى برأيه في مسألة الطلاق وامتحن بسبب ذلك وأوذي.
وقال الدوادي في طبقات المفسرين: ((كان قدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، ولي مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبي ـ وبعد موت السبكي مشيخة الحديث الأشرفية مدة يسيرة، ثم أخذت منه )) ا هـ (1)
وكان مولده سنة 700هـ (سبعمائة) أو بعدها بقليل وتوفي في شعبان سنة 774هـ (أربع وسبعين وسبعمائة من الهجرة)، ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية، وكان قد كف بصره في آخر عمره. رحمه الله رحمة واسعة.
* * *
·     مكانته العلمية :
كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم، وقد شهد له العلماء بسعة علمه، وغزارة مادته، خصوصا في التفسير والحديث والتاريخ. قال عنه ابن حجر ((اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله، وجمع التفسير، وشرع في كتاب كبير في الأحكام لم يكمل، وجمع التاريخ الذي سماه البداية والنهاية، وعمل طبقات الشافعية، وشرع في شرح البخاري .. وكان كثير الاستحضار حسن المفاكهة، وصارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق المحدثين في تحصيل العوالي، وتمييز العالي من النازل، ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدثي الفقهاء، وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد)). وقال الذهبي عنه في المعجم المختص ((الإمام المفتي، المحدث البارع، فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال، وله تصانيف مفيدة))، وذكره صاحب شذرات الذهب فقال: ((كان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم))، وقال ابن حبيب فيه: ((زعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير)) وقال فيه أحد تلاميذه ابن حجي: ((أحفظ من أدركناه لمتون الحديث، وأعرفهم بجرها ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي عليه إلا واستفدت منه)).
وعلى الجملة، فعلم ابن كثير يتجلى بوضوح لمن يقرأ تفسيره أو تاريخه، وهما من خير ما ألف، وأجود ما أخرج للناس.
* * *
·     التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير المأثور، ويعتبر في هذه الناحية الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير. اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف، ففسر فيه كلام الله تعالى بالأحاديث والآثار مسندة إلى أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحاً وتعديلا. وقد طبع هذا التفسير مع معالم التفسير للبغوي، ثم طبع مستقلا في أربعة أجزاء كبار.
وقد قدم له مؤلفة بمقدمة طويلة هامة، تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في مقدمته في أصول التفسير.
ولقد قرأت في هذا التفسير فوجدته يمتاز في طرقته بأنه يذكر الآية، ثم يفسرها بعبارة سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية بآية أخرى ذكرها وقارن بين الآيتين حتى يتبين المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع من التفسير الذي يسمونه تفسير القرآن بالقرآن، وهذا الكتاب أكثر ما عرف من كتب التفسير سرداً للآيات المتناسبة في المعنى الواحد.
ثم بعد أن يفرغ من هذا كله، يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية، ويبين ما يحتج به وما لا يحتج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومن يليهم من علماء السلف.
ونجد ابن كثير يرجح بعض الأقوال على بعض، ويضعف بعض الروايات، ويصحح بعضاً آخر منها، ويعدل بعض الرواة ويجرح بعضاً آخر. وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
وكثيراً ما نجد ابن كثير ينقل من تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وتفسير ابن عطية، وغيرهم ممن تقدمه.
ومما يمتاز به ابن كثير، أنه ينبه إلى ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات، ويحذر منها على وجه الإجمال تارة، وعلى وجه التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (67) وما بعدها من سورة البقرة } إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ... { .. إلى آخر القصة، نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة المخصوصة، وعن وجودهم لها عند رجل من بني إسرائيل كان من أبر الناس بأبيه ... الخ، ويروى كل ما قيل في ذلك عن بعض علماء السلف .. ثم بعد أن يفرغ من هذا كله يقول ما نصه: (( وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدى وغيرهم، فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. والله أعلم ))(1).
ومثلا عند تفسيره لأول سورة ((ق)) نراه يعرض لمعنى هذا الحرف في أول السورة ((ق)) ويقول: ((.. وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا ((ق)) جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما أفترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة حفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن موضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: ((وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فيما قد يجوز العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل. والله أعلم))(2)1 هـ
كما نلاحظ على ابن كثير أنه يدخل في المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام، وإن شئت أن ترى مثالا لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الآية (185) من سورة البقرة } ... فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر {... الآية، فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه(1)} فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره  {... الآية، فإنه قد تعرض لما يشترط في نكاح الزوج المحلل، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم(2).، وارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الآية (230) من سورة البقرة أيضاً:
بالجملة، فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأسور وقد شهد له بعض العلماء، فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحافظ، والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمطه مثله(3).


 

3- الدر المنثور في التفسير بالمأثور – للسيوطي
·     التعريف بمؤلف هذا التفسير :
مؤلف هذا التفسير هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي, المسند المحقق, صاحب المؤلفات الفائقة النافعة, ولد في رجب سنة 849 هـ (تسع وأربعين وثمانمائة), وتوفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر, وأسند وصايته إلى جماعة من العلماء, منهم الكمال بن الهمام , فقرره في وظيفة الشيخونية ولحظه بنظره, وختم القرآن وله من العمر ثمان سنين, وحفظ كثيرا من المتون, وأخذ عن شيوخ كثيرين, عدهم تلميذه الداودي فبلغ بهم واحدا وخمسين, كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على الخمسمائة مؤلف, وشهرة مؤلفاته تغني عن ذكرها, فقد اشتهرت شرقا وغربا ورزقت قبول الناس. وكان السيوطي ـ رحمه الله ـ آية في سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودي: عاينت الشيخ وقد كتب في يوم واحد ثلاث كراريس تأليفا وتحريرا.
وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه, رجالا, وغريبا, ومتنا وسندا, واستنباطا للأحكام. ولقد أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث, قال: لو وجدت أكثر لحفظت. ولما بلغ الأربعين سنة تجرد للعبادة وانقطع إلى الله تعالى, وأعرض عن الدنيا وأهلها, وترك الإفتاء والتدريس, واعتذر عن ذلك في مؤلف سماه ((بالتنفيس)), وأقام في روضة المقياس ولم يتحول عنها إلى أن مات. وله مناقب وكرامات كثيرة, وله شعر كثير جيد أغلبه في الفوائد العلمية والأحكام الشرعية, وتوفي في سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة 911 هـ (إحدى عشرة وتسعمائة) في منزله بروضة المقياس فرضي الله عنه وأرضاه(1).
* * *
·    التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه :
عرف الجلال السيوطي نفسه هذا التفسير وبين لنا الحامل له على تأليفه وذلك بمجموع ما ذكره في آخر الإتقان (ج2 ص183): ((وقد جمعت كتابا مسندا فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم، فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف, وقد تم ولله الحمد في أربع مجلدات وسميته ((ترجمان القرآن )) 1هـ .
وقال في مقدمة الدر المنثور (ج1ص2): ((وبعد فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن ـ وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وتم بحمد الله في مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها واردات, رأيت قصور أكثر أهل الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصاد على متون الأحاديث, دون الإسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته بالدر المأثور في التفسير بالمأثور )) 1هـ .
ومن هاتين العبارتين يتبين لنا أن السيوطي اختصر كتابه الدر المنثور من كتابه ترجمان القرآن, وحذف الأسانيد مخافة الملل مع عزوه كل رواية إلى الكتاب الذي أخذ منه.
ويقول السيوطي في آخر الإتقان (ج3ص190): (( وقد شرعت في تفسير جامع ما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة, والأقوال المعقولة, والاستنباطات, والإشارات, والأعاريب, واللغات ونكت البلاغة, ومحاسن البدائع, وغير ذلك بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا, وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين وهو الذي جعلته هذا الكتاب ـ يعني الإتقان ـ مقدمة له)) 1هـ.
ومن هذه العبارة يتبين لنا أن كتاب: (( مجمع البحرين ومطلع البدرين )) يشبه في منهجه وطريقته ـ إلى حد كبير ـ تفسير ابن جرير الطبري ولكن لا ندري إذا كان السيوطي قد أتم هذا التفسير أم لا؟ ويظهر لنا أنه لا صلة بينه وبين كتاب الدر المنثور وذلك لأني استعرضت كتاب الدر المنثور فوجدته لا يتعرض فيه مطلقا لما ذكره من منهجه في مجمع البحرين ومطلع البدرين فلا استنباط ولا إعراب ولا نكات بلاغية ولا محسنات بديعية ولا شئ مما ذكر أنه سيعرض له في مجمع البحرين ومطلع البدرين, وكل ما فيه هو سرد الروايات عن السلف في التفسير بدون أن يعقب عليها, فلا يعدل ولا يجرح ولا يضعف ولا يصحح فهو كتاب جامع فقط لما يروى عن السلف في التفسير أخذه السيوطي من البخاري, ومسلم, والنسائي, والترمذي, وأحمد, وأبي داوود, وابن جرير, وابن أبي حاتم, وعبد بن حميد, وابن أبي الدنيا, وغيرهم ممن تقدمه ودون التفسير.
والسيوطي رجل مغرم بالجمع وكثرة الرواية, وهو مع جلالة قدره ومعرفته بالحديث وعلله لم يتحر الصحة فيما جمع في هذا التفسير, وإنما خلط بين الصحيح والعليل فالكتاب يحتاج إلى تصفية حتى يتميز لنا غثه من سمينه, وهو مطبوع في ستة مجلدات ومتداول بين أهل العلم.
ولا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أن كتاب الدر المنثور هو الكتاب الوحيد الذي اقتصر على التفسير المأثور من بين هذه الكتب التي تكلمنا عنها فلم يخلط بين الروايات التي نقلها شيئا من عمل الرأي كما فعل غيره .
وإنما اعتبرنا كل هذه الكتب من كتب التفسير بالمأثور نظرا لما امتازت به عما عداها من الإكثار في النقل, والاعتماد على الرواية, وما كان وراء ذلك من محاولات تفسيرية عقلية, أو استطراد إلى نواح تتصل بالتفسير, فذلك أمر يكاد يكون ثانويا بالنسبة لما جاء فيها من روايات عن السلف في التفسير.
وإلى هنا نمسك عن الكلام عن بقية الكتب المؤلفة في التفسير المأثور لما قدمناه من عدم وصولها جميعها إلينا, ومن مخافة التطويل ... ولعل القارئ الكريم يتفق معي على أن هذه الكتب التي تقدمت يغني الكلام عنها عن الكلام عما عداها من الكتب التي نهجت هذا المنهج وسلكت هذا الطريق.


 

فهرس الكتاب
الموضوعات                                                                                                                           الصفحة
المقدمة..................................................................................2
المرحلة الثالثة للتفسير...................................................................3
الخطوة الأولى ـ التفسير الرواية........................................................3
الخطوة الثانية ـ جمع تفسير الرسول r وتعريفه مع الحديث............................3
الخطوة الثالثة ـ جمع التفسير مستقلا عن الحديث.......................................4
معرفة أول من دوَّن تفسير القرآن........................................................4
الخطوة الرابعة ـ توسع التفسير ودخول الإسرائيليات....................................6
الخطوة الخامسة ـ التفسير العقلي........................................................7
تدرج التفسير العقلي.....................................................................7
التفسير الموضوعي توسع متقدمي المفسرين قعد بتأخرهم عن البحث المستقل............9
الفصل الأول...........................................................................12
التفسير بالمأثور وتدرجه...............................................................12
اللون الشخصي للتفسير المأثور........................................................14
الضعف في رواية التفسير المأثور وأسبابه.............................................15
أسباب الضعف........................................................................16
أولا : الوضع في التفسير ـ نشأته وأسبابه............................................16
أثر الوضع في التفسير................................................................17
قيمة التفسير الموضوع................................................................20
ثانيا: الإسرائيليات والمراد بها.........................................................21
مبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير................................................... 23
مقالة ابن خلدون في الإسرائيليات......................................................29
أثر الإسرائيليات في التفسير...........................................................30
موقف المفسر إزاء الإسرائيليات.......................................................31
أقطاب الروايات الإسرائيلية...........................................................33
عبد الله بن سلام......................................................................34
الموضوعات                                                                          الصفحة
كعب الاحبار............................................................................36
وهب بن منبه...........................................................................37
عبد الله بن عبد العزيز بن جريج........................................................39
ثالثا: حذف الإسناد......................................................................42
أشهر ما دون من كتب التفسير وخصائصها..............................................44
جامع البيان في تفسير القرآن ـ للطبري................................................44
تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير.......................................................53
الدر المنثور في التفسير المأثور ـ للسيوطي............................................57
 
انتهى بحمد الله
 
 
(1) هذه الخطوات للتفسير، خطوات علمية، وأما المراحل فزمنية، وأذن فلا ضير أن يخطو التفسير خطوة علمية واحدة في مرحلتين زمنيتين، مرحلة عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ، ومرحلة عصر التابعين.
 
(1) قامت دار الكتب المصرية بطبع هذا الكتاب ، وقد تم منه الجزء الأول سنة 1956م ، وهو ينتهي عند آخر سورة يونس ، والى الان لم يطبع غير هذا الجزء.
(2) التفسير ـ معالم حياته ـ منهجه اليوم ص 31 – 32 ( هامش )
(3) تفسير ابن جرير جـ 1 ص 30
(1) الفاتحة : 7
(2) الإتقان جـ 2 ص 190
(3) وكان السبب في مزج هذه العلوم بالتفسير ما يأتي:
أولا ـ في العلوم الأدبية : ضعف السليقة العربية ، لاختلاط العرب بالعجم ، فاحتيج إلى مزج هذه العلوم بالتفسير لفهم ألفاظ القرآن ، والوقوف على بلاغته التي تعتبر أهم نواحي إعجازه.
ثانيا ـ في العلوم الكونية : ما ترجمه العلماء في أبان شوكة الإسلام من كتب الفلاسفة ، فاحتاجوا إلى مزجها بالتفسير لتأييدها أو الرد عليها .
ثالثا ـ في العلوم الكلامية : ظهور الفرق الإسلامية ، واستدلال كل طائفة منها ببعض آيات القرآن الكريم تذهب إليه ، فاضطر العلماء إلى الكلام على ذلك في التفسير ، ليميزوا المقبول من المردود ، وما يدل عليه القرآن مما لا يدل عليه .
بمزجها في تفاسيرهم ، لتكون متممة للناحية التشريعية ، وشارحة لأصل الدين وهو القرآن
(1) جـ 2 ص103
(2) تبيين كذب المفترى ص 133 وانظر ص 126 منه أو في هامشها : وذكر المقريزي أنه في سبعين مجلداً وعن ابن عربي أنه في خمسمائة مجلد .. وابن فورك كثير النقل عن هذا التفسير . ويقول التاج السبكي انه اطلع على جزء منه . 
(3) المرجع السابق ص 257
(4) المرجع السابق ص 273
(5) التفسير ـ معالم حياته ـ منهجه اليوم ص 15
(1) سيتضح لك فيما بعد التوافق في مناحي التفسير بين المتقدمين والمتأخرين.
(1) المبادئ النصرانية 26.
(2) الإتقان ج2 ص88
(1) انظر التفسير ـ معالم حياته ـ منهجه اليوم ص28.
(1) الإتقان ج2 ص189
(1) العهد القديم ، الإصحاح الأول من سفر التكوين ص4-5
(2) العهد الجديد إنجيل متي ، الإصحاح الأول ص1
 
(1) البخاري في كتاب التفسير ج2 ص12 من فتح الباري
(2) الفوز الكبير في أصول التفسير ص53
(3) البخاري في باب الجمعة ج2 ص13
(1) القسطلاني في شرحه للحديث السابق ج2 ص190
(2) المرجع السابق وسؤال أبي هريرة لابن سلام ، عند مالك وأبي داوود والترمذي
(3) البخاري ج6 ص239 من فتح الباري
(4) البخاري فيباب التفسير ج8 ص120 من فتح الباري
(5) الجزء السادس ص320
(1) فتح الباري ج8 ص120
(2) المتهوك : المتحير
(3) مسند الإمام أحمد ج3 ص387
(4) الجزء السادس ص320
(5) فتح الباري ج13 ص259
(1) المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن ص65
(2) تفسير ابن جرير ج2 ص82
(3) انظر خلاصة تذهيب الكمال ص334 وميزان الاعتدال ج3 ص210
(1) مقدمته في أصول التفسير ص26
(2) وفيات الأعيان ج2 ص568
(3) الإسراء 58
(4) تفسير الألوسي ج5 ص93
(1) باب التفسير ج8 ص297 من فتح الباري
(1) مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير ص37
(1) البخاري في باب الهجرة ج5 ص63
(2) البخاري ج55 ص37 والآية من سورة الأحقاف : 10
(1) الرعد : 43
(1) انظر تهذيب التهذيب ج5 ص249 ، وأسد الغابة ج3 ص176-177
(1) فجر الإسلام ص198 نقلا عن طبقات ابن سعد مجلد 7 ص79
(2) انظر تهذيب التهذيب ج8 ص438-440
(1) فجر الإسلام ص 194.
(2) وفيات الأعيان ج2 ص180
(1) شذرات الذهب ج1 ص226
(2) ميزان الاعتدال ج2 ص151
(3) الجزء الثاني ص107
(4) الإتقان ج2 ص188
(5) صفحة 207
(1) انظر تهذيب التهذيب ج6 ص402-406
(1) الأسلوب الحديث ج1 ص10
(2) صحيح مسلم ج1 ص112
(1) المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن ص87
(1) الإتقان ج2 ص190
(2) معجم الأدباء ج2 ص42
(3) فتاوى ابن تيمية ج2 ص192
(4) المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن ص85
(5) الجز الثاني ص137
(1) تفسير ابن جرير ج2 ص138
(2) تفسير ابن جرير ج1 ص252-253
(3) تفسير ابن جرير ج2 ص289
(1) تفسير ابن جرير ج6 ص13
(2) تفسير ابن جرير ج2 ص290-291
(1) معجم الأدباء ج4 ص45
(1) تفسير ابن جرير ج5 ص33-34
(2) تفسير ابن جرير ج6 ص14
(1) طبقات المفسرين للداودي ص327
(1) الجزء الأول ص108-110
(2) الجزء الرابع ص221
(1) الجزء الأول ص 216-217
(2) الجزء الأول ص277-279
(3) الرسالة المستطرقة للكناني ص146
(1) انظر ترجمته في شذرات الذهب ج8 ص51-55

 

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - إدارة الدراسات الإسلامية